كانت لافتةً تصريحاتُ وزير خارجية دولة الاحتلال، الجديد إيلي كوهين، بأن "إسرائيل ستكون أقلَّ علنيةً في الحديث بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا"؛ ما يُشعِر بمسار جديدٍ لحكومة نتنياهو إزاء الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ بانحياز إسرائيلي أكثر وضوحًا لروسيا.
وهو الأمر الذي وجد تعبيرات عنه في المواقف الأوكرانية من إسرائيل، منها ما ظهر في المحافل الدولية ومجلس الأمن، في خطوة ابتعاد جديدة لإسرائيل عن أوكرانيا، بعد رفضها، سابقًا، (وفي عهد حكومة نتنياهو الجديدة أيضًا) تقديم معدّات عسكرية لأوكرانيا، برغم مطالبات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي المتكررة بذلك، كما رفضت حكومة إسرائيل الانضمام إلى العقوبات المالية على روسيا.
تشير التقارير الغربية إلى أن إيران وروسيا أقرب ما تكونان في هذه الآونة، مما كانتا قبل الحرب، وأنهما وجدتا أرضية مشتركة على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا
وتعقيبًا على هذا التطور انتقد السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي يعتبر من أكبر الداعمين للاحتلال الإسرائيلي، في الكونغرس، بشدة وزير خارجية الاحتلال، معتبرًا أن "الصمت عن السلوك الإجرامي لروسيا لن يُذكر كأمر إيجابي". وفي الوقت نفسه، تشير التقارير الغربية إلى أن إيران وروسيا أقرب ما تكونان في هذه الآونة، مما كانتا قبل الحرب، وأنهما وجدتا أرضية مشتركة على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، برغم أن ذلك لا يحظى بإجماع النخبة الحاكمة في طهران.
يجد الجناح السياسي الإيراني المؤيِّد لعلاقات أقوى مع موسكو مصالح مجدية مع روسيا، ولا سيما بعد فشل مفاوضات طهران مع الغرب لإبرام اتفاق بشأن الملف النووي. وهي بذلك تزجُّ بنفسها وسط هذه المواجهة الخطيرة والمصيرية، ما لم يُتوصَّل إلى حلٍّ وسط، لا تتوفر لها فرص، حتى الآن، وليس من السهل توفُّرها في المستقبل.
وتندفع موسكو إلى توثيق علاقتها بإيران؛ لكونها إحدى أكبر شركائها الأجانب في محاولتها تأمين الإمدادات العسكرية، ولإيجاد شريان الحياة لاقتصادها الذي يعاني من العقوبات، حتى لو بقيت هذه الشراكة دون المستوى المطلوب، من مستوى تحالف رسمي كامل، وفق محللين غربيين. هذا الدعم العسكري الإيراني، ومنه الطائرات المسيَّرة التي حذَر الرئيس الأوكراني، في خطابه أمام الكونجرس الأميركي في ديسمبر/ كانون أول 2022، من خطرها: "الطائرات بدون طيَّار الإيرانية القاتلة التي تم إرسالها إلى روسيا بالمئات أصبحت تهديدًا لبنيتنا التحتية الحيوية". مع أن أوكرانيا قادرة على إسقاط الكثير منها.
هذا، والتوافق الإيراني الروسي ليس جديدًا، إذ ظهر في سوريا، مع أن تطورات الصراع في سوريا أظهرت تعارُضات بين الدولتين الطامعتين بتوسيع نفوذهما، وتعزيز مواقعهما، وتكثير أرباحهما ومصالحهما.
وفي الموضوع السوري، يمكن القول إن تقسيم النفوذ والأدوار بين روسيا وإسرائيل، ثم إيران، وما ينتجه ذلك من تعارضات وصراعات، لا يؤثر على استمرار التقارب الإيراني والإسرائيلي مع روسيا؛ فلا يحول استمرار الاستهداف الإسرائيلي العسكري لسوريا ومواقع استراتيجية فيها، كمطار دمشق الدولي، من دون تنامي هذا التعاون الإيراني الروسي.
لكن السؤال: ما الذي دفع قادة إسرائيل إلى هذا الاقتراب المحفوف بالمخاطر من روسيا، فيما يشبه الحسم بعد تذبذبها، أو (حيادها) بين معسكر أميركا والدول الغربية، ومعسكر روسيا ومَن يحالفها، ومِن أبرزهم إيران؛ العدوة اللدودة لإسرائيل والمصنَّفة، غالبًا أنها الأكثر تهديدًا لدولة الاحتلال، وفق قادة الأخيرة؛ على خلفية مشروعها النووي، ودعمها لجماعات فلسطينية، تقاتل إسرائيل، في غزة والضفة الغربية؟
دافع السؤال عن هذا الانحياز الإسرائيلي يعود إلى تاريخية العلاقة مع الولايات المتحدة، وثباتها، وحجم الاعتماد الإسرائيلي على دعمها، سياسيًّا، وعسكريًّا، واقتصاديًّا، ودبلوماسيًّا.
ثم يزداد الاستغراب لكون روسيا لا تحظى، عالميًّا، بشبكة علاقات واسعة، خصوصا بعد حربها على أوكرانيا، بل إن معاملتها كدولة منبوذة يتعمق، ولا يمكن الوثوق بدعم مطلق لها من دول كبرى كالصين، فهي أقرب إلى العزلة، وهذا يتجلى في مجلس الأمن، والأمم المتحدة، لدى التصويت على قرارات متعلقة بالحرب الروسية على أوكرانيا.
في البدء، لا يستبعد تمامًا احتمال المساومة من قبل حكومة نتنياهو لأميركا والدول الغربية.
مجريات الحرب لا تبشِّر بنصر قريب لروسيا، وكلما طال أمد الحرب زادت أزمة بوتين، داخليا، وإذا مر هذا الشتاء، على أوروبا، وأوكرانيا فإن أوراق روسيا، وأهمها سلاح الغاز والنفط تتراجع، ولاسيما مع هذا الدعم الأميركي والأوروبي العسكري الذي لا إشارات على تراجعه، بل العكس، من حيث نوعية الأسلحة الدقيقة والتعاون الاستخباراتي، والاصطفاف السياسي المتين، وبعد الإنجازات الأوكرانية العسكرية المهمة على الأرض، وقبل ذلك مع شراسة المقاومة الأوكرانية، وعدم ظهور تراجُع شعبي عن مناصرة المقاتلين الأوكرانيين والرئيس زيلينسكي.
أمن إسرائيل مسألة يصعُب التعرُّض لها، أو التراخي فيها، أميركيًّا، وهي مسألة غير حزبية، لا تخضع للخلافات والتباينات بين الجمهوريين والديمقراطيين
ويكمن السبب الأول، في مصلحة إسرائيل، في الاحتفاظ بوضعها في سوريا، ومنع التطور الإيجابي في العلاقات الروسية الإيرانية أن يؤثر على موقف روسيا من ملاحقتها للنفوذ الإيراني في الأراضي السورية ومحاولات تهريبها السلاح إلى حزب الله في لبنان. وهذا الهدف البالغ الأهمية لأمن إسرائيل، وفق التقديرات المعلنة، رسميًّا، قد ينطوي على عوامل (تفهُّم) أميركي، فأمن إسرائيل مسألة يصعُب التعرُّض لها، أو التراخي فيها، أميركيًّا، وهي مسألة غير حزبية، لا تخضع للخلافات والتباينات بين الجمهوريين والديمقراطيين، ووفق الرأي العام الأميركي، وفي أوساط النُّخَب الأميركية، والجماعات الموالية لإسرائيل، وقد يكتسب هذا التفهم مزيدًا من القوة، مع غياب مواقف من الرئيس بايدن وإدارته، صارمة تُجاه تقدُّم طهران نحو تطوير قدراتها النووية، كنوع من التعويض، والإقناع بتفادي ضربة إسرائيلية ضد إيران.
وإلى جانب المصلحة الإسرائيلية في سوريا، تسعى دولة الاحتلال إلى استبقاء علاقات جيدة مع موسكو، لرعاية اليهود في روسيا، وتابعت كما جاء في إشارة وزير الخارجية كوهين إلى "الجالية اليهودية في روسيا، والمغتربين من الاتحاد السوفييتي السابق في إسرائيل، وأهميتهم للعلاقات بين الدولتين".
وبعد، فلا بد أنَّ إسرائيل ترى إلى أثمان تستأهل هذا الانحياز الواضح إلى روسيا، في مواجهةٍ ليست مع أوكرانيا فقط، ولكن في الحرب الأميركية الأوروبية؛ لمنع روسيا من الإخلال بالنظام العالمي الذي يتوِّج أميركا قائدة أولى له.