اللجنة الدستورية ودوام الوجع السوري

2019.10.03 | 03:00 دمشق

قمة أنقرة التي جمعت قادة تركيا وروسيا وإيران (رويترز)
+A
حجم الخط
-A

تباينت الآراء حول إنجاز ما سمي باللجنة الدستورية.. ففي حين رحب المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، إلا أن السوريين لم يهتموا بأمرها، فالأمم المتحدة بالذات لم تفعل للسوريين شيئاً ذا بال على مدى تسع سنوات من القتل والدمار والتشرد سوى إرسال المندوبين واستبدالهم، إذ لم يجد معظم السوريين في اللجنة الطموح الذي ينشدونه بعد كل ما عانوه من شرور الحرب فلم يروا فيها حلولاً لمشكلاتهم الأكثر أهمية كتلك المتعلقة بالسجون والمعتقلات، ولا لمشكلات اقتلاعهم من بيوتهم ومدنهم، كذلك لم يجدوا فيها توافقاً مع قرار مجلس الأمن رقم 5422 تاريخ 18 كانون الأول 2015 القاضي بتشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات أولاً، وبمعالجة ملف المعتقلين والمفقودين ثانياً ثم إقرار دستور جديد، وإجراء انتخابات ديمقراطية تحت إشراف دولي، ترعاه الأمم المتحدة.. أما من كان متفائلاً فقد ذهب بعيداً إذ تحدث عن اللجنة الدستورية وكأنها لمسة نبي ما إن تلامس العليل حتى يعود بكامل صحته وعافيته.. ولعلَّ هذا محتوى ما تحدث به الأمين العام للأمم المتحدة، وكذلك رئيس هيئة التفاوض السورية الدكتور نصر الحريري الذي قال إنَّ تشكيل اللجنة الدستورية هو "إنجاز حقيقي وانتصار للشعب السوري، وجزء من القرار 2254، ولا أحد يستطيع أن يُنكر ذلك". (صحيح هو جزء من القرار، ولكن شتان أن تصدر في ظل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات، كما نصت أوليات القرار، وبين أن تصدر تحت إشراف النظام) فتصريحات وليد المعلم وزير خارجية النظام التي أدلى بها خلال مؤتمر صحفي، توحي بذلك إذ قال: "إن اللجنة أنجزت بفضل توجيهات الرئيس بشار الأسد، وحافظت القيادة السورية على تطلعات الشعب السوري، واحترمت هذه التطلعات".

 إن أوَّل ما يلفت في الاتفاق بين طرفي الصراع في سوريا، حول اللجنة الدستورية هو تجاوز قرار الأمم المتحدة 2254

فهل ستكون اللجنة الدستورية بداية لإعادة تشكيل المجتمع السوري الذي فتَّتته الحرب ووزعته في أنحاء العالم؟! هل ستكون هذه اللجنة قادرة، فعلاً، على إعادة لملمته ولأم جراحه، أم إنها ستبني على أنقاضه بناء جديداً مختلفاً يعيد تأهيل النظام كما تصريح وليد المعلم؟! فأية تطلعات تلك التي يراها الأسد؟ ولأي شعب سوري؟ ألهؤلاء الذين يموتون تحت التعذيب في سجونه ومعتقلاته؟ أم لهؤلاء الذين يعيشون في المخيمات والمنافي التي ضج بهم العالم؟ أم لأولئك الذين يعانون مرارة العيش في الداخل السوري نفسه: غلاء أسعار وفقدان مواد وجوْر لصوص ومجرمين يتفاقمون مع كل صباح..!

 إن أوَّل ما يلفت في الاتفاق بين طرفي الصراع في سوريا، حول اللجنة الدستورية هو تجاوز قرار الأمم المتحدة 2254 بإعادة ترتيب بنوده ما يوحي وكأن جوهر المشكلة السورية ومحتواها لا يكمن في النظام الذي باشر الحرب على الشعب، ولا في المعارضة التي أعطت النظام كل المبررات لارتكاب الجرائم والمجازر الوحشية والاستعانة بالأجنبي الذي مارس توحشاً غير مسبوق بحق سوريا وشعبها ومقدراته بل إنَّ جوهر المشكلة كامن في الشعب السوري ذاته..!

بالطبع لا يوجد سوري واحد، فيما أعتقد، يرفض عودة السوريين بعضهم إلى بعضهم، وإنهاء حالة الاحتراب ما بينهم، والخلاص كلياً من زيادة سفك الدماء، ومن الخراب والتدمير والهجرة والتهجير والسجون والمعتقلات، ومضاعفة آلام الناس، وتعميق جراحها وأحزانها، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني الذي دمرته الحرب، ولعب فيه الفاسدون الذين أفرزهم النظام ورعاهم على مدى خمسين عاماً دوراً تخريبياً إضافياً.. فالسوري اليوم في أسوأ حال، ولعله أشبه ما يكون بالغريق الذي يتعلق بقشة، فهو لا يرفض أي حل، مهما كان شكله أو أسلوبه، ومع ذلك فثمة سؤال، أو عدة أسئلة تفرض نفسها، وأهمها: أتراها هذه اللجنة قادرة على أن ترمِّم ما قد خربَّه من تمثلهم؟! ما يعني هل تستطيع ليَّ ذراع من أشرف على تسميتها وارتضاها هيئة ترسم المسار السوري بما يخدم حاجات الشعب السوري وتطلعاته نحو دولة تقوم على أسس ديمقراطية.. دولة تخلصهم من كل من يحسب، إذا ما أصبح في موضع القرار، أن الدولة مزرعة لأمه وأبيه..

الحقيقة إن هذه اللجنة المسماة بالدستورية قد أعادتنا إلى المربع الأول وإلى بدايات الصراع، وإلى تعنت طرفيْ الصراع بمواقفهما رغم كثرة الوساطات والمبادرات والاقتراحات التي قدمت لهما.. وكلها نصَّت على إيجاد هيئة حكم انتقالية تمثل الشعب السوري، وتسعى إلى دولة مدنية ذات نظام ديمقراطي، تعددي، فمن مبادرتي جامعة الدول العربية الأولى في 10 أيلول 2011 المتضمنة خطة للانتقال إلى نظام ديمقراطي والثانية في كانون الثاني عام 2012 التي نصت على تسليم الأسد صلاحياته إلى نائبه فاروق الشرع، وقد رفض النظام الاثنتين طبعاً، ليأتي مؤتمر جنيف1 في حزيران 2012 ويصدر بياناً يقضي بتأسيس هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية وتعدُّ المرجع الرئيس للقضية السورية.. وفي أيلول 2013 صدر القرار 2118 عن الأمم المتحدة وعدَّ أهم مرجع للعملية السياسية استند إلى خطة كوفي أنان ثم أتى مؤتمر جنيف2 في 22 كانون الثاني 2014 الذي أفضى إلى نزع سلاح النظام الكيميائي بعد مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق التي ارتكبها النظام. وفي العام 2015 اجتمعت سبع عشرة دولة في فيينا في أكتوبر ونوفمبر بغياب ممثلين عن المعارضة والنظام، واتفقت على السعي لوضع أطر للانتقال السياسي، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات وعقد مباحثات بين النظام والمعارضة.. وفي كانون الأول 2015 صدر عن مجلس الأمن القرار 2254 ما شكل منعطفاً جديداً، وعقدت جولة جديدة في جنيف حضرها ممثلو النظام في كانون الثاني 2016 لكنها توقفت إذ اعترضت المعارضة على مهاجمة قوات النظام لمدينة حلب، وبعدئذ دخل الطرفان في أنفاق أستانا والخداع السياسي للروس، وتفوقهم العسكري، ليحقق النظام تفوقاً عسكرياً قاد إلى هذه اللجنة..!

الحقيقة إن هذه اللجنة المسماة بالدستورية قد أعادتنا إلى المربع الأول وإلى بدايات الصراع، وإلى تعنت طرفيْ الصراع بمواقفهما

إن تلك الفرص التي أعطيت لحلول موضوعية تلبي حاجات الشعب السوري لم تكن مجرد زمن طويل أهدر، بل كانت مجالاً للفتك بسورية وبمقدراتها، وترحيل شعبها، وتدمير اقتصادها، وتمكين الفاسدين منه واستدعاء الأغراب للسيطرة على ثرواتها، والتحكم بقرارها السياسي.. ومما يؤسف له أن تلك الفرص قد أضاعها طرفا الصراع نظاماً ومعارضة، وإن بنسب مختلفة، إذ يتحمل النظام الوزر الأكبر.. فما أعلنه "علي حيدر" وزير ما يسمى بـ "المصالحة الوطنية" قبل أيام من انعقاد جنيف 2: "لا تتوقعوا شيئا من جنيف 2، فلن يحل جنيف 2 أو جنيف 3 أو 4 الأزمة السورية. الحل بدأ وسيستمر عبر الانتصار العسكري للدولة". وهو ما حصل بالفعل.. إذ استدعى النظام الروسَ ليمارسوا أبشع جرائمهم بحق الشعب السوري، فقد دمروا سورية بالكامل، وضغطوا، في النهاية، قليلاً على النظام لتبييض وجههم ووجهه أمام العالم (فهم بحاجة إليه لترسيخ ما حصلوا عليه..).

قد يرى بعضهم أنَّ المعارضة لم يعد بيدها شيء، وفعلها مبرر بعذابات الشعب السوري التي لم تعد تحتمل.. قد يكون ذلك صحيحاً! لكن النظام مخنوق أيضاً، وربما أكثر! فهو مخنوق أولاً، بما ارتكبه من فظائع وجرائم، وهو مخنوق بالوضع الاقتصادي المتهالك، ومخنوق بقهر الشعب الذي أخذ أنينه الغاضب يرتفع..! وهو مخنوق بذلِّه أمام من سيَّدهم عليه..! وهو أخيراً، مخنوق بتفاقم الفساد الذي قد يدفع الشعب لفعل ما.. فلا أحد يظن بأن النظام قادر على النيل من الفاسدين، فهذا مستحيل إذ كلهم من عظم الرقبة..!

أما إذا كانت المعارضة حريصة، فعلاً، على لأم جراح الشعب السوري، ووحدة سورية، فعليها أن تمُدَّ جسوراً مع سوريي الداخل.. فهل تقدر؟ أم إنَّ الارتهان قد وضعها في طريق واحد لا غير..؟!