اللاجئون السوريون والسياسة اللبنانية "القوية"

2019.02.23 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يستمد رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون صفة "الرئيس القوي" من تبنيه جملة "خطط" سياسية، هي بمثابة هواجس مسيحية وجودية. أي إنه يعدهم كرجل حازم، يعمل بإصرار وقوة، على تبديد أسباب "الخوف" والضعف اللاحق بالمسيحيين في لبنان.

وعلى هذا الوعد، حاز تكليفاً شعبياً مسيحياً عريضاً في قيادتهم كما يشاء، فعقد تفاهماً شهيراً في 2006، مع "حزب الله"، كضمانة وكاستقواء في آن واحد. إذ يضمن له وللمسيحيين شراكة متوسعة في السلطة وإدارات الدولة، إضافة إلى الامتيازات الطائفية المكرسة دستوراً وعرفاً. وفي الوقت نفسه، يتيح هذا التفاهم، حلفاً سياسياً بالغ القوة بمواجهة المنافسين المسيحيين أولاً، والخصوم من الطوائف الأخرى، السنّة تحديداً. وامتداداً لنظرية "حلف الأقليات"، توسع التفاهم ليشمل سياسياً وعملياً النظام السوري.

ورغم مخالفة سياسة ميشال عون لتاريخه ولكل التاريخ السياسي المسيحي، الذي كان دوماً منحازاً للغرب، إلا أن الفشل الغربي، ومعه ما يسمى منظومة دول الاعتدال العربي، سوغ لعون وللرأي العام المسيحي هذه المخالفة، والانحياز إلى ما يسمى "حلف الممانعة"، وفق منطق المكاسب التي تُجنى من ملاصقة المنتصر.

الكيان اللبناني، هو قبل كل شيء، استجابة لرغبة المسيحيين بالخروج من الإمبراطورية الإسلامية وأزمانها

وما يشغل "المسيحية السياسية" دوماً وأبداً هو الميزان الديموغرافي أولاً، و"الخصوصية الثقافية" ثانياً. فالكيان اللبناني، هو قبل كل شيء، استجابة لرغبة المسيحيين بالخروج من الإمبراطورية الإسلامية وأزمانها، وللامتناع عن الذوبان في كيان عربي واسع ومفترض بعد نهاية السلطنة العثمانية. وطوال عمر التجربة السياسية لهذا الكيان، دولة ودستوراً وتقاليد وذاكرة جمعية ممتدة، تألفت عناصر لسردية ثقافية تصنع تمايزاً في هويته وفي سمات مواطنيه وجماعاته. 

ولأن السمة البارزة في الكيان اللبناني وصيغته هي الهشاشة، وحاجته الدائمة لتدبير التوازنات، وترتيب التسويات بين جماعاته المتنازعة والمتباينة، فإن أي خلل ديموغرافي، أكان وافداً من وراء الحدود أو ناتجاً من الداخل نفسه، يدفع المسيحيين للاستنفار أو يجفّل الأقليات الصغيرة، كالدروز مثلاً. ولا تنجو حتى طائفة كبرى كالمسلمين السنّة من هكذا هواجس.

الخوف من الذوبان وضياع "الخصوصية"، رافق تاريخ لبنان كله. فعندما دبّت الحماسة بالمسلمين اللبنانيين لجمال عبد الناصر وللوحدة بين مصر وسوريا، التحقت الدولة اللبنانية التي يقودها المسيحيون بحلف بغداد وطلبت مجيء المارينز الذي نزل إلى شواطئ بيروت عام 1958، إثر اندلاع حرب أهلية مصغّرة، وانتهى الأمر بتسوية بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر، قوامها حياد لبنان عن المحاور وضمانة عبد الناصر باحترام استقلاله.

وظل هذا التوازن الصعب إلى أواخر الستينات، عندما شعر اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً، أن اللاجئين الفلسطينيين قد تضاعفوا بعد هزيمة 1967، وأن عودتهم إلى وطنهم صارت مستعصية أكثر. وعندما تحول الوجود الفلسطيني إلى قوة عسكرية كبيرة، لها حرية العمل الفدائي انطلاقاً من الحدود، وبتأييد شطر كبير من المسلمين اللبنانيين، أدرك المسيحيون أن كيانهم مهدد جدياً بالزوال، وأن توطن الفلسطينيين بلبنان، سيطيح بكل المعادلة الديموغرافية لصالح المسلمين، ما يحولهم إلى "أقلية" فعلية، عدا عن تمزق "الهوية" اللبنانية وضياع "خصوصياتها" الثقافية بحكم خطر اندماج الفلسطينيين.

بالطبع هذا أهم سبب رئيسي لانفجار لبنان وانزلاقه إلى مسلسل من الحروب، انتهت بما عرف باتفاق الطائف، الذي يتضمن بندين "وجوديين" بالنسبة للمسيحيين. البند الأول هو مبدأ المناصفة في التمثيل والسلطة والإدارة (أي وقف العد السكاني طالما أن المسلمين يتزايدون أكثر والمسيحيون يهاجرون أكثر). هذا مبدأ يضمن حصة متساوية دائماً. أما البند الثاني فهو "رفض التوطين" الذي يستهدف منع تجنيس العرب المقيمين في لبنان، خصوصاً الكتلة السكانية الفلسطينية (تضاءلت خلال العقود الثلاثة من 400 ألف شخص إلى أقل من 200 ألف).

تحرك الدولة اللبنانية اليوم تجاه وجود اللاجئين السوريين. هي ديناميكية لا تأخذ بالاعتبار أي حقائق اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية

نقول كل هذا لا لـ"التفهم" بل لفهم الديناميكية التي تحرك الدولة اللبنانية اليوم تجاه وجود اللاجئين السوريين. هي ديناميكية لا تأخذ بالاعتبار أي حقائق اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية في تعاطيها مع هذا الملف، بقدر ما تنتبه لهاجسها الهوياتي الذي وصفناه آنفاً. وهو ما يفسر هذا الإلحاح الكبير عند الدولة لإيجاد أي وسيلة لـ"التخلص" من هؤلاء اللاجئين. هم بهذا المعنى كابوس "أيديولوجي"، يصيب التصور الذي لا يرى لبنان إلا معطى ثابتاً. أي تغير، مهما كان نوعه، يهدد وجوده.

عملياً تتحول هذه الهواجس إلى سياسة "وطنية" كاملة. وعليها، يصبح تعريف الهوية اللبنانية قائما على الضدية من الآخر وعلى نفي هذا الآخر. وفي السنوات الأخيرة، صار "اللبناني" هو رديف الـ"لا سوري"، بعدما كان الـ"لا فلسطيني"، وعند غلاة اللبنانوية هو الـ"لا عربي" عموماً.

السيئ في ما تسميه الدولة اللبنانية "ملف اللاجئين" هو الاستهلاك السياسي الرخيص. فالرئيس عون وتياره السياسي، كما حلفاؤه من أصدقاء النظام السوري، يعرفون أن حزب الله هو الذي يحتل قرى معظم السوريين الموجودين في لبنان. ويعرفون أن النظام السوري نفسه لا يريد عودتهم حتى الآن. والأهم أنهم يعرفون استحالة إجبارهم على العودة من دون إثارة دول العالم كله على لبنان، ويعرفون أن ما يسمى "خطة روسية" هي فكرة غامضة ولا تطبيق لها. هم يعرفون أيضاً أن السوريين أنفسهم لا يطيقون البقاء في لبنان إن أتيحت لهم فرصة العودة حقاً. مع ذلك، هو ملف للبازار السياسي الداخلي، للاستخدام الدعائي والانتخابي وللمنافسة على كسب التأييد الشعبي.

بمعنى آخر، ينتج عن هذه الأيديولوجية السياسية الديماغوجية بامتياز أمر واحد: انحطاط أخلاقي اسمه التمييز والعنصرية. النتيجة نراها بوضوح مثلاً، في الدراسة التي نشرت في دفاتر المعهد الفرنسي للشرق الأدنى Les cahiers de l’Ifpo في 31 كانون الثاني 2014 تحت عنوان تصورات لبنانية للاجئين السوريين في لبنان. يورد الباحث الفرنسي جان باتيست بيسكيه  Jean-Batiste PESQUET نتائج استبيان قام به في الفترة بين 15 و21 أيار 2013 بين 900 لبناني 56 في المئة رجال و44 في المئة نساء.

من بين النتائج الواردة في هذا الاستبيان، نقرأ الأرقام الآتية:

- 82 في المئة لا يُفضّلون (ينظرون بشكل سلبي إلى) زواج أحد من أقربائهم مع سوري.
- 93 في المئة يجدون أن السوريين يشكلون عبئاً على موارد الطاقة في لبنان.
- 98 في المئة يجدون أن السوريين يسرقون عمل اللبنانيين.
- 63 في المئة يجدون أن المساعدات الواردة إلى السوريين هي مساعدات غير مستحقة.
- 64 في المئة يعدون أن وجود السوريين يشكل خطراً على الأمن الوطني وعلى استقرار لبنان.

وهذه وصفة كاملة، لتصنيع عداوة، قد يلزمنا أجيال لمداواتها والعلاج منها.