اللاجئون السوريون في لبنان: ارتكاب الجريمة مرتين

2018.12.02 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قليلون من أبدوا احتجاجاً أو اهتماماً بالحملة الأمنية، على مدار يومي الأربعاء والخميس الماضيين، التي نفذها الجيش اللبناني في مخيمات اللاجئين السوريين بشمال شرق البقاع اللبناني، بمحيط بلدة عرسال وجرودها، والتي أدت إلى اعتقال ما يقارب 500 لاجئ تتفاوت أعمارهم ما بين 14 و50 سنة، بحجة خطة أمنية استباقية تهدف إلى تأمين فترة الأعياد المقبلة بالمناطق اللبنانية، وبذريعة وجود مذكرات توقيف بحق 27 مطلوباً يقطنون تلك المخيمات (ومنهم مواطنون لبنانيون)، علماً أن هذه الحملة حدثت في أوقات الفجر والسكان نيام، وعلى نحو اقتحم فيه الجنود الخيام التي تأوي النساء والأطفال، وما ينتج عن ذلك من حالات هلع وترهيب وانتهاك لحرمات الأسر ومساكنها.

وقد استغرب وجهاء وأهالي بلدة عرسال، اضطرار الجيش لهكذا حملة واسعة النطاق، طالت في وقت واحد أكثر من ثلاثين مخيماً، طالما أنه في حال وجود استدعاء أمني، أو مذكرة جلب، لأحد سكان الخيمات، يتم بسهولة تامة وبلا أي حاجة للمداهمة الشاملة.

لكن على ما يبدو، هذه الحملة لا تتوقف على أسباب أمنية (ولو سلّمنا بحقيقتها)، بل تتسق مع نهج سياسي تتبناه الدولة اللبنانية (أو بعضها "القوي"، في لحظة انكسار جناح رئاسة الحكومة)، يحاول بشتى الطرق والأساليب التخلص من اللاجئين السوريين. فهذا "الملف"، يؤرق لبنان الرسمي والشعبي في آن واحد، وقد تحول إلى حال يمكن تسميتها "رهاب اللاجئ". رهاب ينتج عنه تحويل اللاجئين السوريين إلى مصدر للكراهية ولممارسة الاضطهاد والتنكيل. هم خطر على "الانسجام" الوطني، وتهديد وجودي..إلخ.

هذه "الأيديولوجيا" المهيمنة على الوعي اللبناني العمومي، تصوغ سياسة تهجيرية ترفدها فاشية شعبية، مؤداها "رمي السوريين في البحر"، على مثال "رمي اليهود في البحر". 

لكن ما لا يقر به هؤلاء من اللبنانيين هو مسؤوليتهم الأخلاقية والسياسية والعسكرية الحربية عن المصيبة التي نزلت بالسوريين وجعلتهم هكذا "لاجئين".

يتغاضى معظم اللبنانيين، مكابرة أو جهلاً، عن حقيقة شراكة جماعة لبنانية وازنة في "الجريمة السورية"

يتغاضى معظم اللبنانيين، مكابرة أو جهلاً، عن حقيقة شراكة جماعة لبنانية وازنة في "الجريمة السورية". يتناسى القسم الأكبر من اللبنانيين أن ميليشيا لبنانية بالغة التسليح والتدريب، كانت شريكة أساسية مع النظام الأسدي، في تدمير مئات القرى، وتشريد سكانها، وقتل الآلاف منهم.

يغفل أغلب اللبنانيين، أن تلك الجماعة، أي الطائفة الشيعية، وأن تلك الميليشيا، أي "حزب الله"، هما جزء لا يتجزأ من الكيان اللبناني ومن دولته، وهما شريكان وازنان جداً في الحكومة والبرلمان، كما في سائر المؤسسات والأجهزة، إلى حد لا يمكن معه فصل الطائفة والحزب عن هوية الدولة وسياستها. بل، وأبعد من ذلك، وبسبب فائض القوة التي تمتلكها الطائفة و"حزبها"، ما من سياسة لبنانية إلا تلك التي يفرضها "حزب الله" وحلفاؤه.

يترتب على التغاضي والإغفال والتناسي، تملص اللبنانيين من حقيقة أن معظم اللاجئين السوريين في لبنان، هم "لاجئون" على يد "حزب الله"، الذي أخرجهم من أرياف حمص الغربية، ومن قرى القلمون الغربي، ومن بلدات وادي بردى وسائر ريف دمشق. إن معظم اللاجئين الذين فرّوا إلى البقاع اللبناني وإلى محيط بلدة عرسال هم سكان قرى ومزارع وبلدات ومدن هاجمها "حزب الله" ودمرها واستولى عليها.. وما زال يمنع أهاليها من العودة إليها تحديداً، خصوصاً في القصير والقرى المجاورة لها.

بمعنى آخر، ليست فئة لبنانية محدودة أو عصبة صغيرة منهم فقط هي المسؤولة عن فعل تهجير السوريين، بل هناك مسؤولية لبنانية كاملة عن ما أوقعه "حزب الله" بالشعب السوري، وما ارتكبه من أفعال عسكرية داخل سوريا. إن قبول لبنان الرسمي، إزالة الحدود مع سوريا على نحو دائم، يتيح دخول وخروج آلاف المقاتلين اللبنانيين بكل آلياتهم وأعتدتهم وأسلحتهم من دون عائق، واحتلال هؤلاء للأراضي السورية وإقامة قواعد عسكرية فيها.. كل هذا يرتب مسؤولية حقوقية قانونية على الدولة اللبنانية، حتى ولو كانت فاقدة لسيادتها على تلك الحدود.

الدولة اللبنانية، وجماعات أهلية وطائفية في لبنان، تُشهر الكثير من المخاوف تجاه حقيقة وجود هذا العدد الهائل من اللاجئين السوريين، وما يترتب على هذا الوجود من أعباء اقتصادية وخدماتية وبيئية.. كما تعبّر عن قلقها العميق من تكريس أمر واقع يحوّل إقامة اللاجئين من حال مؤقتة إلى حال دائمة، ما يعني تغييراً كبيراً في ديموغرافية الطوائف وتوازناتها، كما في ديموغرافية النظام الاجتماعي وطبقاته، خصوصاً أن السمة الغالبة على هؤلاء اللاجئين هي منابتهم الفلاحية، وتدني مستويات التعليم، والفقر، إضافة إلى هويتهم السورية وولائهم إلى هذه الهوية، ما قد يطرح تهديداً للكيانية اللبنانية وصيغتها السياسية ويبدّل في هوية المجتمع اللبناني وفي خريطة مكوناته.

إزاء هذه المخاوف، تنتهج الدولة اللبنانية سياسة "تشجيع" اللاجئين السوريين على المغادرة. وإذ تلقفت وحدها، دون سائر الدول، الخطة الروسية لعودة السوريين إلى بلادهم، تبين أن روسيا أرادت من خطتها توريط دول الجوار والعالم في كلفة إعادة إعمار سوريا، من دون أي ضمانات لهؤلاء السوريين لا في سلامتهم ولا حتى في عودتهم إلى أماكنهم الأصلية، ولا في استعادة أملاكهم وعقاراتهم. 

عمدت الدولة اللبنانية إلى حزمة إجراءات وممارسات وسلوكيات، تؤدي بمجملها إلى تحويل حياة اللاجئين البائسة أكثر بؤساً

ومع فشل الخطة الروسية، عمدت الدولة اللبنانية إلى حزمة إجراءات وممارسات وسلوكيات، تؤدي بمجملها إلى تحويل حياة اللاجئين البائسة أكثر بؤساً، ومضاعفة الشعور بالمهانة عبر تعمد إذلالهم والتضييق عليهم وتخويفهم وإهانته.. يساعدها في ذلك، هيمنة خطاب إعلامي وسياسي ينضح بالعنصرية والتمييز، على نحو يومي وعمومي. وكل هذا يدفع اللاجئين دفعاً نحو البحث اليائس عن أي سبيل للمغادرة.

في هكذا مناخ، حدثت عدة حملات "عودة" إلى سوريا، تمّ ترتيبها بين الأجهزة الأمنية اللبنانية والأجهزة الأمنية السورية، انتهت بعودة خمسين ألفاً فقط من أصل ما يقارب مليوناً ونصف المليون لاجئ. لكن، هذه التجربة، وكما كان متوقعاً، أفضت إلى وقوع العائدين في مصيدة الانتقام الأسدي. بعضهم تم قتله، وآخرون ذهبوا مباشرة إلى المعتقلات، والكثير منهم منعوا من العودة إلى أماكنهم الأصلية، ومعظمهم يعيش يومياً تحت وطأة الترهييب والبطش والتنكيل مجدداً. 

بمعنى آخر، علم اللاجئون السوريون أن عودتهم هي تسليم أعناقهم لمقصلة النظام. وعلى هذا اختاروا أهون الشرّين، بؤس البقاء في مخيمات التشرد والضيق والمهانة بلبنان. 

أدى هذا إلى ما يمكن تسميته بالغيظ اللبناني والتبرم من اللاجئ الذي يرفض العودة غير الآمنة، طالما أن الدولة مجبرة على احترام المعاهدات والالتزامات الدولية والقانون الاساسي لشرعة حقوق الإنسان، ولا يسعها علنا تهجير مئات الآلاف ورميهم خارج الحدود. لذلك، هي اليوم تلجأ إلى حزمة إجراءات تسهل على اللاجئ مثلاً الهجرة غير الشرعية عبر البحر، أو التسلل عائداً خفية إلى داخل سوريا.. إضافة إلى حزمة ممارسات وقرارات إدارية وأمنية "تسوّد" حياة اللاجئين السوريين دفعاً بهم إلى الهروب نحو المجهول.

بهذا المعنى، لبنان الرسمي يتهرب من مسؤولياته الأخلاقية والسياسية والعسكرية (تبعاً لشراكة "حزب الله" بالدولة)، في جريمة تهجير السوريين أول مرة من أرضهم، كما يتهرب من هذه المسؤوليات تجاه هؤلاء الضحايا بوصفهم "لاجئين" على أراضيه.