الكورونا ورائحة الأرض

2020.04.20 | 00:07 دمشق

4b95833b04f68791c37c4243909273fd_xl.jpg
+A
حجم الخط
-A

في ذلك الصباح الندي، وبعد يومٍ حافلٍ بألف مشهدٍ عصيٍ على الوصف، لشدة ما ضم بين جنبيه من أفراح وأحزان، وأملٍ ويأس، صدمتنا تربة الأرض برائحتها التي أبكتنا لطيبها، وقد تخللها ندى الصباح.

البارحة خرج المئات منّا، بقرار عفوٍ رئاسي، بعد أن أمضى معظمهم عشر سنين في السجن، بالرغم من أن أحكام معظمهم، تتراوح بين البراءة، والأربع سنوات، وأصبحت أجنحة السجن تردد صدى حزن الباقين، الذين فاتهم قطار الخروج، وقد فُتحت الأبوابُ، وخرج من خرج، وبقينا حيث كنّا.

في ذلك الصباح، اقترب الرقيب المسؤول، وطلب بتهذيبٍ غير مألوف، أن يتطوع عشرةٌ منّا، لينقلوا الطعام من بوابة السجن إلى داخله، وكانت هذه فرصة يتسابق إليها الشبّان، وما هي إلّا دقائق، حتى كنّا عشرةً منتصبي القامة، نمشي حفاةً إلى موضع، لم تطأه أقدامنا من قبل.

نزلنا درج السجن مهرولين، خلف الرقيب الذي تقدمنا، وهو يكرر توصياته، بعدم الالتفات إلى أي موضع خلا موضع الطعام، الذي سننقله، مؤكداً أن هذا لن يتكرر ثانيةً، فمن الغد سيكون هناك عناصر أخرى، تتولى هذا الأمر كما كان دائماً.

ما إن وصلنا إلى باب المبنى الداخلي، والذي كان مفتوحاً على مصراعيه، تحفه مجموعةٌ كبيرةٌ من الشرطة العسكرية، حتى هبت علينا نسمات الصباح، التي اختلطت برائحة العشب النديِّ، ورائحة التراب الذي أصابه بلل خفيف.

كانت الشاحنات التي تحمل الطعام، لما يزيد على ثلاثة آلاف سجين، تقف على مسافة أمتار من درج المبنى، يفصلها عنه مساحة من الأرض الزراعية، وقد زرعت على أطرافها بضع شتلات من النعناع والبصل الأخضر والبقدونس، وكانت رائحتها الجميلة تسبق نظرنا إليها، وما إن تقدمنا خطوات للأمام، حتى تسمرنا جميعاً في أماكننا، وكأن أمراً عسكرياً قد صدر دون آمر.

ثوان قليلة يقطع عبرها الخيال والذكرى، اثنتا عشرة سنةً مضين، ونحن نمشي في سجن تدمر الصحراوي، على أرضٍ إسمنتيةٍ أو إسفلتيةٍ، طالما تمرغت بها وجوهنا، وسالت عليها دماؤنا، أو على أرضٍ رصفت بلاطاتها الصمّاء بصلابةٍ، كما هو الحال في سجن صيدنايا، موضع الحديث.

أما الآن وفي هذه اللحظة، التي تتطاول في نفوسنا لشدة متعتها، حتى لا نرجو لها انقضاء، فإننا نطأ ولأول مرةٍ، منذ سنواتٍ طويلةٍ، أرضاً ترابيةً، زادها ندى الصباح حنواً وطيب رائحة، فكأنَّ أقدامنا تنغمس في ترابها، يا له من إحساس محببٍ وعجيب، ماذا يفعل فينا الفقد والحرمان، رائحة الأرض ورائحة النعناع وبرودة نسيم الصباح، وخرير ماء ينساب من موضعٍ ما.

ثوان قليلة مرت، وعشرات الخواطر والذكريات عبرت، سرعان ما قطعها صوت الرقيب، يحثنا على حمل الطعام بسرعة، فخروجنا بضع أمتارٍ خارج البوابة الداخلية للسجن، يعد خرقاً صارخاً للمألوف، وما كان له أن يكون لولا الضرورة، بالرغم من وجود عدة أطواق وأبواب ومحارس، ومئات الأمتار التي تفصلنا عن الباب الخارجي للسجن.

قفلنا عائدين ودموعنا باديةٌ في مآقينا، كان الجميع في الجناح يسألنا بعيونه قبل لسانه ما الخطب، وكان ردنا جميعاً، "لقد وطئنا الأرض بأقدامنا"، تأثر كثيرون حين تحدثنا إليهم بما جرى، وضحك آخرون من العبارة، فهي توحي أننا هبطنا من كوكب آخر، أو رجعنا من عمق المحيط.

هذا الحَجر الذي نعيشه اليوم، في عالم الكورونا، والذي حجبنا عن عشرات التفاصيل الصغيرة، والممعنة في بساطتها، والتي تشكل تفاصيل حياتنا اليومية، التي طالما مللنا منها أو تكرر تذمُّرنا، أعادني إلى ذلك الحَجر الطويل، الذي عشناه كرهاً في تلك السجون، التي تفتقر إلى أبسط الأدوات والأشياء، التي يحتاجها الإنسان في يومه، لكنه بذات الوقت ذكرني كم غدت الحياة بعده جميلة وعزيزة بكل تفاصيلها.

غداً وفي وقتٍ أرجو أن يكون قريباً، وبالرغم من طغيان الحديث عالمياً، عن عالم سيأتي بعد أزمة الكورونا، لا يشبه سابقه، وغالبا سيكون أسوأ، إلّا أنني أرجح انه على الصعيد الإنساني، سيكون للحياة معنى مختلف أيضا، ستكون للمصافحة والمعانقة وتشبيك الأيدي، والربت على الأكتاف وتطويق الأعناق والقبلات، وحث الخطى في الطرقات والحدائق، وشرب الشاي على الأرصفة، والتحلُّق في مكان طلقٍ حول منقل الشواء، والجلوس في صالةٍ أو مسرحٍ لحضور حفلٍ موسيقيٍ يؤمه المئات بل الألوف، ستكون لتلك الأشياء البسيطة والعادية، نكهة مختلفة، وسننظر إليها نظر الظمآن للماء البارد، ولن تكون بعده عبارة "أمر عادي" تعني تقليلاً لشأنه أو حطاً من قدره، بل ربما ستعني أنه أمر يشق الاستغناء عنه.

وسنتذكر كيف بقينا لأيام طوال، نرقب أعداد موتنا ومرضانا، وهي ترتفع كل ساعةٍ، وسندرك كم نحن عزيزون وكم يؤلمنا الفقد.