icon
التغطية الحية

الكذب عند الأطفال.. ضوء على هذه الظاهرة القديمة الجديدة

2022.05.27 | 09:20 دمشق

kdhb_atfal.jpg
+A
حجم الخط
-A

من الظواهر السلوكيَّة القبيحة أو القبيحة جداً أن يكذبَ الطفل أو الطفلة، فهو رمز البراءة والنقاء، أبيضُ القلب كغمامة، والكذبُ يتعارض مع طبيعته! وإذا كان الكذب لدى الكبار أمراً معتاداً أو شبه معتاد، فنحن ما زلنا نستنكره بشدة، وبغضب إذا كنا من طينة نقية طيِّبة. فحينما نكتشف شخصاً يقوم نحونا بهذه الممارسة نضع تحت اسمه خطاً أحمر، ويفقد صدقيتَهُ لدينا. كذبُ الأطفال أشدُّ وقعاً على النفس، وحين نصادفه نشعر أنَّ هناك خللاً خطيراً في العالم الداخلي لهذا الطفل الكاذب.

مواقفُ طريفة من الطفولة

كانت الأمهات تحذِّر الأبناءَ من الكذب بوسائلَ فيها خفة ظل. كأن تقول إحداهن لابنها: إذا كذبتَ يصبح فمُكَ أعوجَ، ومن فمك يعرفك الناس، فيبتعدون متصايحين: كذَّاب. أمامكم كذَّاب!

وتقول أمٌّ أخرى لولدها: الكذَّاب تنبتُ بين عينيه شوكة، والصادقُ تنبت بين عينيه زهرةُ ياسمين.

وكنتُ في طفولتي أنظر إلى وجوه الصادقين، فألمح بين عيونهم ما يشبه زهرةَ الياسمين البيضاء، فأتعلَّق بالصدق، بينما ألمح الشوكةَ في وجوه الكاذبين، فأزداد نفوراً من الكذب.

لكنَّ الكذب رغم جهود الأمهات لم يختفِ من الدنيا، إنما نقصَ وتراجع في فترةٍ ما، في حين نراه اليومَ عاد لينتشر بكثرة في عالم الصغار!

لهذا نطرح السؤال الآتي: لماذا يكذب الأطفال، قليلاً كان عدد الكاذبين بينهم أو كثيراً؟

يجيب علماءُ النفس: إنَّ الكذب عند الطفل يعكس اضطراباً نفسياً أو إحساساً بالدونية أو قلقاً، وهو- في مجمله- مشكلةٌ تتداخل فيها جوانبُ نفسية واجتماعية وتربوية وأخلاقية.

يقودنا هذا إلى الحديث عن نقطة مهمة هي:

أنواع الكذب عند الصغار

1- الكذب الاعتيادي: هو أكثرُ أنواع الكذب انتشاراً في المجتمعات العربية حالياً، وفيه يكذب الطفل تناغماً مع ما اعتاده في أجواء أسرته، فالكذب لدى تلك الأسرة ممارسة يوميَّة مألوفة وعادة راسخة. لقد ضعفَ الرادع الأخلاقي عند الأب والأم، ونشأ الصغير على خُلق أبويه، فأصبح كاذباً ابن كاذب وكاذبة! وفي المثل الشائع: (مَنْ شابه أباه، فما ظلم).

2- الكذب الدفاعي: يلجأ إليه بعضُ الأطفال خوفاً من العقاب الجسدي الذي ما زال شائعاً في البلاد العربية، أو التأنيب الشديد المقترن بالإهانة أو الحرمان من متعة يطير بها الطفل فَرَحاً كالخروج إلى النزهة أو أخذِ (الخرجيَّة/ المصروف الشخصي).

إنَّ الطفل الذي نشأ في أسرة تعالج أخطاءَهُ بالأساليب السابقة لا بدَّ أن يمتلئ خشيةً ورهبة، فإذا سئل مَنْ كسر الإبريق قال: وجدتُه مكسوراً، أو دخل قِطٌّ من النافذة وكسره أو هبَّتْ عليه الريح فانكسر!

3- الكذب التعويضي: ينتشر في شرائح من الأطفال تعاني نقصاً ما، يتعلق بالقوة الجسدية أو الحالة المالية للأسرة أو المستوى الاجتماعي.

فالطفل الضعيف البدن يختلقُ بطولاتٍ لنفسه، يرويها لمن لم يطَّلعوا على حقيقة ضعفه.. يرويها بعذوبة وتنميق وتفاصيل قد تلتبس على السامع، فيعتقد بأنها حصلتْ حقاً!

والطفل المنتمي إلى طبقة اجتماعيَّة متدنية قد يُطلق لسانَه في الحديث عن مزايا أبيه وأمه وعلو مراتب أقربائه، فيجعل أحدَهم وزيراً والآخر أميراً.. إلخ.

والطفل الفقير قد يُكثِرُ من الحديث عن أنواع الألبسة الغالية التي اشتراها له أبوه حتى إن خزانته لم تعد تتسع لها! وعن أصناف الأطعمة التي تضعها أمه كلَّ يوم على المائدة فلا يعرف ماذا يأكل! ونلاحظ أنَّ البنات البائسات قد يبرز لديهن هذا الجانب بقوة، فبيئتُهن التعيسة المجدبة من المتع والهدايا، وحرمانُهن المزمن مع ما تقع عليه أبصارهن من رفاه لدى البنات الثريات ربما يدفعهن لإطلاق اللسان فيما عندهن من دمى ساحرة، وثياب مزركشة لا مثيلَ لها.

4- الكذب الاختلاطي: يقع هذا النوع من الكذب عند الأطفال في مرحلة الطفولة الأولى، وعند الأطفال الأكبر الذين يعانون تخلفاً في نمو الوعي، وفي هاتين الحالتين يكذب الطفل، لأنه لا يعرف الحدَّ الفاصل بين الحقيقة والخيال.

5- الكذب الفني: هو حالة يملك فيها الطفل خيالاً إبداعياً تبعثه من أعماقه موهبةٌ دفينة في الشِّعر أو القصة أو الرسم أو غير ذلك. طفلٌ كهذا إذا لم تنتبه المدرسة إلى ما لديه من طاقة، وكذلك إذا غفلتْ عنه الأسرة فسيكذب كذباً مدهشاً خفيفَ الظل تارةً، مزعجاً تارةً أخرى!

مصحة للجميع

أمامَ مشكلةٍ كبيرة كمشكلة الكذب نجد الآباءَ يسألون: ما هو العلاج؟

الأمهات يسألن أيضاً.

رجال الدين.

الأدباء.

المعلمون والمعلمات.

رجال الإعلام.

العلاج طبعاً ليس موجوداً في علبة دواء كعلاج الصداع أو العطاس الشتوي، ولا هو متوفر في سطر من الحكمة أو بيت من الشِّعر. إنه أمرٌ كبير بحجم هذه القضية الكبيرة.. قضية الكذب.

نقول ذلك، لأنَّ أنواع الكذب السابقة باستثناء النوعين الأخيرين تشير إلى أمراض كبيرة لا عند الأطفال، وإنما في أُسرهم ومجتمعاتهم، وفي البُنى الأخلاقية المهتزة التي ابتعدتْ عن مظلة العقل ووصايا الأديان، وانخرطتْ في حالات من النفعية والاستسلام للموجات العالية.

إن إصلاح الطفل الكاذب لا يبدأ منه، إنما يبدأ من الحلقات الاجتماعية والتربوية التي تمارس تأثيرَها عليه كالأب والأم والحي والشارع والمدرسة ووسائل الإعلام.

ذلك الطفل يشرب ماءً ملوَّثاً بميكروب الكذب أو بالعوامل المسبِّبة للكذب، وعلينا أن نذهب إلى مَنْ لوَّثَ الماءَ لنعالجه أولاً، ثم نلتفت إلى الطفل، ولأنَّ من لوَّثوا الماءَ كثيرون.. كثيرون جداً، فنحن نحتاج إلى مصحة كبيرة  تتسع لهم جميعاً لعلهم يشفون من الكذب، ويرجعون إلى الصدق، فنرى بين عيونهم زهرةَ ياسمين.