الكذب الصفيق مِلحُ السياسة

2023.04.20 | 06:11 دمشق

Alvaro Uribe
+A
حجم الخط
-A

ليس اكتشافاً جديداً القول، إن لدى المجتمع الدولي قدرة هائلة على التعايش مع الشخصيات الديكتاتورية حول العالم، حتى لو كان لهؤلاء سجل دامغٌ فيما يتعلق بجرائم ضد الإنسانية، أو الإبادة الجماعية وانتهاك حقوق الإنسان. أكثر من ذلك، يمكن للدول الكبرى غضّ الطرف عن أعتى مرتكبي الجرائم الوضيعة، بمن فيهم مصنّعي وتجار المخدرات وزعماء المافيات. إن الملاحظات أو رسائل الإدانة التي توجهها تلك الدول بين حين وآخر، حول الجرائم المعلنة التي لا يمكن تجاهلها، لن تعني شيئاً على أرض الواقع، سوى أنه يجب على تلك الدول أن تقول ما تقوله، من باب الدعاية الأخلاقية التي تستند إلى سياسات عديمة الأخلاق، وهذا ليس مفاجئاً، فهو حال عالم السياسة غالباً كما تعلمون.

استشاط المرشح الرئاسي الكولومبي "ألفارو أوريبي" غضباً عام 2002، وقاطع مراسل صحيفة "نيوزويك" متهماً إياه بمحاولة تشويه سمعته. بكل الثقة بالنفس، التي يتحلى بها الصادقون عادةً، قال الرجل "أنا كسياسي، كنت على الدوام شريفاً ومسؤولاً". حدث ذلك عندما سأله المراسل جوزيف كونتريراس عن علاقاته المزعومة مع بابلو إسكوبار أشهر تاجر مخدرات على مرِّ التاريخ، وعن ارتباطاته مع آخرين متورطين في عالم تجارة المخدرات.

كانت كثير من الشائعات حول تلك العلاقات، تُثار حول أوريبي في كولومبيا، وعلى نحوٍ أقل في الولايات المتحدة الأميركية. كل تلك الشائعات لم تمنع فوز الرجل ليكون رئيساً لكولومبيا لدورتين رئاسيتين حتى عام 2010. تم إعادة انتخابه عام 2006 بعد تعديل الدستور ليجيز له فترة رئاسية ثانية، لا يوفّرها الدستور عادةً.

كان من بين تلك الأسماء اسم الرئيس ألفارو أوريبي، الذي تم تصنيفه كمرتبط ومتورط بأنشطة المخدرات في الولايات المتحدة، حيث ورد أنه عمل ونسَّق مع "كارتل ميديلين" الذي يقوده إسكوبار.

في أيار/مايو عام 2004، أي بعد عامين من ذاك المؤتمر الصحفي للمرشح الرئاسي الشريف والمسؤول، ستُرفع السرّية عن تقرير أميركي يتضمن قائمة بأهم المتعاونين الذين تعاقدت معهم كارتلات المخدرات الكولومبية، من أجل تسهيل وتأمين الحماية والنقل والتوزيع لأعمالها. كان من بين تلك الأسماء اسم الرئيس ألفارو أوريبي، الذي تم تصنيفه كمرتبط ومتورط بأنشطة المخدرات في الولايات المتحدة، حيث ورد أنه عمل ونسَّق مع "كارتل ميديلين" الذي يقوده إسكوبار.

في القائمة، يظهر اسم أوريبي الذي حمل الرقم 82، على ذات الصفحة مع إسكوبار، وفيدل كاستانو زعيم واحدة من أكبر ميليشيات البلاد، والمصنفة كجماعة إرهابية لدى وزارة الخارجية الأميركية. معظم المدرجين في القائمة هم من تجار المخدرات المعروفين أو القتلة المرتبطين بكارتل ميديلين. من بين الأسماء الأخرى كان الرئيس السابق لبنما مانويل نورييغا، وتاجر الأسلحة الشهير عدنان خاشقجي.

لم يُثر الكشف عن التقرير حينذاك كثيرا من ردّات الفعل، سوى لدى خصوم أوريبي السياسيين. فبحلول تلك الفترة، كان الرئيس قد أصبح شريكاً رئيسياً للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب والمخدرات! هل بدا لكم الأمر غريباً ومتناقضاً؟ شخصياً، لا أعتقد ذلك. إنه عالم السياسة والمصالح. فالتقرير الذي رفعت عنه السرية لم يكن وليد تلك الفترة، إنما تم إعداده عام 1991. أي قبل انتخاب الرئيس بأحد عشر عاماً. وهذا ليس مهماً، ما دام الرئيس شديد الإخلاص للولايات المتحدة، منذ وصوله للسلطة. ولن يكون من المهم فيما تلا ذلك من سنوات، اكتشاف أن علاقة شخصية قوية وخاصة، كانت تربط أوريبي ببارون المخدرات، زعيم كارتل ميديلين الذي قتل عام 1993. بل وفي جانب من التقرير يظهر أن أوريبي شارك في حملة إسكوبار البرلمانية، عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ!

تصادف لي أن رأيت صورة لملصق حملة أوريبي الرئاسية عام 2002. كان الشعار المُدوَّن يقول: "يدٌ حازمة، قلبٌ كبير"، للأمانة كان الملصق مع الشعار لافت فنياً ومضموناً. سيبدو للكولومبيين أن الشعار موجه لهم، أما أنا فقد بدا لي وكأنه خطاب مباشر للأميركيين، بما يعني: سأكون يدكم الحازمة، وبالمقابل ليكن قلبكم كبيراً. في زيارة لكولومبيا سيخاطب الرئيس جورج دبليو بوش أوريبي: "سيدي الرئيس، أنت وحكومتك لم تخذلانا. في العام المقبل سأطلب من الكونغرس تجديد دعمه، حتى تتمكن هذه الدولة الشجاعة من الفوز في حربها ضد إرهابيي المخدرات". في مطلع عام 2009 سيمنح بوش صديقه أعلى وسام أميركي مدني، وسام الحرية الرئاسي، لجهوده في تعزيز الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لا تتفق "مراسلون بلا حدود"، على ما يبدو، مع الرئيس بوش. وفقاً للمنظمة، تم تخفيض تصنيف كولومبيا في مجال حرية الصحافة، من المرتبة 114 إلى 145 بين عامي 2002 و2010. وأكثر من ذلك، اكتشفت السلطات القضائية فيما بعد، العديد من المقابر الجماعية، الناجمة عن عمليات الجيش خلال حكم أوريبي. عمليات استهدفت مدنيين، ادّعى الجيش أنهم مقاتلين إرهابيين. أعلنت "هيومان رايتس ووتش" أن هناك عدة آلاف من الضحايا قُتلوا، في وقائع وصفتها المنظمة بأنها حالات انتهاك لحقوق الإنسان وقتل للمدنيين، ولم يعلم عنها العالم. اليوم، لدى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية معلومات مفصّلة عن 2047 حالة إعدام لمدنيين. قام بها جيش الرئيس الحاصل على الوسام الأميركي.

في الرابع من آب/أغسطس 2020، نشرت "الغارديان" خبراً يفيد أن المحكمة العليا في كولومبيا أمرت باحتجاز الرئيس السابق أوريبي، وسط تحقيق في مزاعم العبث بالأدلة والشهود والاحتيال فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبت خلال عهده. تابعت الصحيفة بأنه خلال فترة رئاسته، ازدهرت الجماعات اليمينية شبه العسكرية، وأرعبت المدنيين. اختطف جنود الجيش وقتلوا آلاف المدنيين، وأعلنوا أنهم مقاتلون متمردون، فقط من أجل تعزيز الإحصائيات وتبرير استمرار طلب المساعدات الأميركية.

مثل كل السوريين، أراجع المجازر المعروفة التي ارتكبها نظام الأسد، طوال أكثر من نصف قرن، وأتابع اليوم انخراطه في تصنيع وإدارة تجارة المخدرات على مستوى العالم

شخصياً، أحاول كثيراً وعلى الدوام، الإجابة على السؤال الهاجس: هل يستطيع العالم الاستمرار بالتعايش والتصالح مع مثل تلك الجرائم؟ وهل يستطيع ابتلاع كل تلك الحقائق الدامغة، والاستمرار في النهج ذاته؟ حيث لا يمكن حماية المجرمين وحسب، بل ومساعدتهم للبقاء في السلطة، ومتابعة جرائمهم. مثل كل السوريين، أراجع المجازر المعروفة التي ارتكبها نظام الأسد، طوال أكثر من نصف قرن، وأتابع اليوم انخراطه في تصنيع وإدارة تجارة المخدرات على مستوى العالم، الأمر الذي صار معروفاً وتداولته معظم وسائل الإعلام العالمية. حقائق لن تحتاج لسنوات كي تكشفها لنا وثائق سرّية ما، سيُفرَج عنها لاحقاً، ومع ذلك لا نجد سوى تصريحات رمزية لن تغير من واقع الحال أي شيء.

عام 2007، منحت اللجنة اليهودية الأميركية (AJC) أوريبي جائزة "نور الأمم"! صرّح جودكيند رئيس اللجنة، وهو يقدم الجائزة خلال العشاء السنوي في واشنطن العاصمة بأن "الرئيس أوريبي حليف قوي للولايات المتحدة، وصديق جيد لإسرائيل والشعب اليهودي، ويؤمن إيماناً راسخاً بالكرامة الإنسانية، والتنمية البشرية في كولومبيا والأميركيتين". والآن هل تتفقون معي أن العدالة الدولية لا تمتلك قدمين؟ بل ولا حتى كرسي متحرك يعينها على المضيّ قدماً، ولو خطوة صغيرة. خطوة كانت ستشي على الأقل أن عالمنا لا ينحدر أخلاقياً.