القوة الروسية والحقيقة السورية

2021.12.31 | 05:36 دمشق

thumbs_b_c_bb2eef81d5401335eab5168b30531ae6.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما الذي جعل من بحيرة في وسط أفريقيا، وهي ثاني أكبر بحيرة للمياه العذبة وأكبر بحيرة استوائية في العالم، والمنبع الرئيسي لنهر النيل الذي قامت على ضفافه حضارات عديدة أشهرها الفرعونية، الفرعونيّة التي تمتد حتى قبل نحو خمسة آلاف سنة.. ما الذي جعل من بحيرة كهذه مغمورة قبل اكتشافها بوساطة رحّالة إنكليزي، ثم ليهدي ذلك الرّحالة اكتشافه إلى ملكة بريطانيا، وقتها، لتصبح البحيرة ذات يومٍ من عام 1858 وقد وُلِدت، وليصير اسمها بحيرة فكتوريا!

في الردّ على مثل هذا التساؤل سيجيبنا المنطق الحضاري: إنها القوة، تلك التي يمكنها، وحدها، إعادة تعريف الحقيقة!

وهو المنطق ذاته الذي أقيمت على أساسه منظمة عالميّة كالأمم المتحدة التي تضم، بحسب غوغل، (193) دولة عضواً في الجمعيّة العامة، يتباحثون في أمور الاقتصاد والتجارة والسياحة، ما يشاؤون،  إلّا أنّ قرار: السلم والحرب تتم صياغته في مجلس الأمن، الذي يضمّ خمس عشرة دولة، عشر منها تحصّل، بوساطة انتخابات في الجمعيّة العامة، على عضويّة مؤقّتة في مجلس الأمن، وخمس دول نووية دائمة العضوية يحق للواحدة منها أن تستخدم -وحدها- حق النقض (الفيتو) فيسقط القرار الدولي أيّا تكن مبرّرات إصداره، وأيّا يكن عدد الدول التي صوّتت له!

إنّها القوّة النّووية الروسيّة التي تعيد تعريف الحقيقة السوريّة، بل الحقيقة العالمية التي تضمنتها القرارات الصادرة عن مجلس الأمن كالقرار 2254، أو ما نتج عن جنيف (1)، بل ويمكن للقوّة الروسيّة، إن تُرِكت، أن تعيد تعريف المبادئ العامة للأمم المتحدة أيضاً، وتعريف القيم الإنسانيّة، والحريّة، والثورات، متى تكون مقبولة ومتى تكون غير مقبولة!

لذلك فإن التفسير الروسي الأخير، والصادر على لسان مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا: ألكسندر لافرنتييف، من أنّ "إنشاء الدستور السوري الجديد يجب ألا يهدف إلى تغيير السلطة في ذلك البلد" و ("إذا سعى شخص ما إلى هدف وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس، وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن هذا الطريق لا يؤدي إلى شيء")، إن هذه الحتميّة في تفسير مآلات عمل (السوريين بأنفسهم) -كما يكرر المسؤولون الروس وغيرهم-  إن هذا ليس أسلوباً جديدا على العنجهيّة الروسيّة، بل ربّما يمكن القول: إنّه نمط أصيل تتميّز به العقليّة السياسيّة الروسيّة.

ففي أعقاب مؤتمر جنيف1 الذي أقيم في حزيران 2012 والذي نصّت نتائجه على أن الحل في سوريا لا بدّ أن يكون: (بطريقة سياسية وعبر الحوار والمفاوضات فقط، الأمر الذي يتطلب تشكيل حكومة انتقالية، من قبل السوريين أنفسهم، ومن الممكن أن يشارك فيها أعضاء الحكومة السورية الحالية» جاء تصريح، وقتها، على لسان وزير الخارجيّة الروسي "لافروف" لإعادة تعريف (الحقيقة) بقوله: إنّ (المؤتمر لم يشترط تنحي الرئيس الأسد..)!

في حين رأت وزيرة الخارجيّة الأميركيّة وقتها "هيلاري كلينتون" أنّ: (المؤتمر يمهد لمرحلة ما بعد الأسد..) فحصل تباين بين التفسيرين الروسي والأميركي لنتائج المؤتمر.

منذ ذلك الحين والمتغطرس الروسي، يسعى إلى تأكيد معنى الوهم الذي يجده الروس مناسباً لغطرستهم، بدءاً من استخدام الفيتو لصالح النظام السوري المجرم في مجلس الأمن، مروراً بمجيء الآلة العسكريّة الروسيّة منذ أيلول 2015 إلى سوريّا لتساهم مع الأسد في قتل السوريين، ولتكون غطاء جويّا للميليشيا الإيرانية التي تجتاح المدن السوريّة، ولتصنع القوة العسكرية انتصارات للوهم بقوة الحديد والنار! هذا ولم يزل المسؤولون الروس يؤكدون: أنّ الحل في سوريا يصنعه: (سوريون بأنفسهم)!

كما أنّ روسيا تُدرك أنّ الغطاء العسكري، وحده، غير كاف لتقديم الوهم الروسي على أنه حقيقة، لذلك عمدت إلى استنساخ مسار سياسي مواز للمذبحة السوريّة، فخلقت مسار أستانا، الذي تضمّن مؤتمر سوتشي، ذلك المؤتمر الذي يحلف نظام الأسد وحلفاؤه والمعارضة وبعض حلفائها برأسه!

روسيا تُدرك أنّ الغطاء العسكري، وحده، غير كاف لتقديم الوهم الروسي على أنه حقيقة، لذلك عمدت إلى استنساخ مسار سياسي مواز للمذبحة السوريّة، فخلقت مسار أستانا

أمّا اللجنة الدستورية المنبثقة عن المعارضة السوريّة فتراه مرجعاً!

سبعة عشر لقاء تفاوضيا في أستانا، وستّ جولات للجنة الدستوريّة في جنيف، بدت وكأنها مسرحيّة مضحكة ومبكية بالنسبة إلى السوريين (بأنفسهم) المعنيّين بالدرجة الأولى بالحفاظ على الحقيقة السوريّة، والرافضين لأي التفاف على القرارات الدوليّة الصادرة وعلى رأسها القرار 2254.

لكن هل على السوريين وحدهم أن يقدّموا أرواحهم فداءً للحضارة البشريّة!

في الطرف المقابل، فإنّ الموقف الغربي تجاه قضيّة الشعب السوري يبدو ليّناً، بل ورخوا إذا ما قورن بالروسي، فالغرب، بحسب التصريحات، مهتمّ أكثر بقتال (داعش/ والإرهاب)، دون الإشارة المباشرة إلى حقيقة يدركها الغرب جيّدا، وهي الدور الرئيسي للنظام في صنع واستجلاب الإرهاب.. اللهمّ إلا من تصريحات عاطفيّة كما جاء مؤخّرا على لسان مندوب السعوديّة، حليفة المعسكر الغربي، في الأمم المتحدة "عبد الله العلمي"!

كيف يمكن للشعب السوري البائس في المخيمات تحت البرد والقهر أن يفهم تصريحاً للدول الغربيّة يدعو إلى: ضرورة وقف العنف من ((جميع)) الأطراف.. إذا كانت قوّة السلاح الروسي قادرة على إعادة تعريف العنف بأنّه صراخ الأطفال السوريين في المخيّمات خوفا من طائراتها!

أمّا حين تصدر بيانات متعدّدة عن أميركا وروسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد والمعارضة السوريّة، وكلها تؤكد على: (وحدة الأراضي السوريّة) فإنّ المواطن السوري المحتار، وقد رأى كل هذا الاتفاق، سيجزم دون شكّ أن خطابهم إنّما هو موجه إلى محيط على وشك اجتياح اليابسة السوريّة، لا إلى سواه! 

وربّما يشتدّ عود المعسكر الغربي أحياناً، ليدعم -بكل جرأة- استمرار دخول المساعدات الإنسانيّة إلى المنكوبين في إدلب، من باب الهوى، لستّة أشهر كاملة قادمة، وربّما احتاج السوريون، ليفهموا تصريحا أميركيا من مثل أنّ: (الإدارة الأميركية لا تشترط إسقاط النظام بل تريد تغيير سلوكه) إلى محلل نفسي، لا إلى محلل سياسي!

نخبرهم أنّه تيس، فيطلبون منّا حلبه! ربّ سوريّ قائل.

لا شك أنّ مأساتنا كسوريين ليست من صنع أيدينا فحسب، بل إنّ جزءً كبيرا منها جاء نتيجة خلل يشهده النظام العالمي الذي ورثت فيه روسيا دورا أمنيّا في حين لا تكاد تمتلك روسيا الحديثة من إرث الاتحاد السوفييتي إلا السلاح النووي.

لم تكن قوة التاج البريطاني الذي أعاد تعريف بحيرة (فيكتوريا) مقتصرةً على القوة العسكريّة فحسب، بل على شخصيّة حضاريّة متكاملة من الاقتصاد إلى السياسة فالثقافة والفن والأدب.. وتلك أشياء التي لا يمتلكها بوتين ولا بشار الأسد.