القنيطرة والحجر الأسود.. الأخلاق بين دمارين

2022.07.21 | 05:48 دمشق

جاكي شان
+A
حجم الخط
-A

ليس الصيني جاكي شان أوّل من استغل دمار المناطق والمدن السورية كأمكنة للتصوير في الأعمال السينمائية والدرامية، وحتى جلسات التصوير الفوتوغرافي! من بوابة توفير النفقات الباهظة.

لقد بدأ الأمر مع سوريين ينتمون لنفس البلد، ويحكون اللغة ذاتها التي يحكي بها أصحاب البيوت من النازحين واللاجئين، الذين سيتعرضون لأقسى التجارب الحياتية قسوة بعد تهجيرهم، حينما سيشاهدون بيوتهم سكناً لشخصيات مُختلقة، تروي حكاية أخرى، مختلفة عما حدث معهم!

صنع مثل هذا الفحش المخرج جود سعيد في فيلمه "مطر حمص" (روائي طويل)، كما قام بالفعل ذاته، وبصفاقة منقطعة النظير، المخرج جودت أنزور في عدة أعمال بين السينما والدراما التلفزيونية!

كما أثار المخرج الليث حجو غضب اللاجئين السوريين في غير مكان، حينما صنع فيلماً حمل عنوان "الحبل السري" (روائي قصير)، جرى تصوير مشاهده في أمكنة مدمرة من مدينة الزبداني، وقد رد منتجو العمل آنذاك بأنهم لم يصنعوا هذا الفيلم إلا من أجل إنصاف أصحاب المكان!

ومن بين الغرباء الذين أرادوا الاستثمار في الدمار السوري توفيراً للنفقات أيضاً، جاء المخرج السينمائي اللبناني أحمد غصين إلى سوريا، وصور في دمار مدينة القصير مشاهد من فيلمه "جدار الصوت"، ولم ينج بفعلته من أقلام السوريين واللبنانيين على حد سواء، الذين وصموا هذا الفعل باللاأخلاقي.

هذا ما نعرفه، وربما فاتنا الاطلاع على أعمال أخرى، خاصة أننا لا نتابع كل ما ينتج في الداخل السوري أو ما يفعله المخرجون الأجانب ممن يدعوهم النظام لزيارة سوريا.

لكن ما يستحق التوقف عنده، بالمعنى الأخلاقي والسياسي وليس الفني والإنتاجي، هو قدرة صناع هذه الأعمال على ارتكاب هذا الفجور دون أن يرفّ لهم جفن، والمضيّ بعد ذلك إلى تصدير منتجاتهم إلى الشاشات، ليضعوا المشاهدين في حالة الظن والإيهام بأن كل ما يرونه إنما هو مصنّع درامياً!

وربما لن يكونوا صريحين بالإشارة إلى أمكنة التصوير، ما يغلق الدائرة على عقل المشاهد، فلا يراوده الشك أنه يشاهد بيوتاً وشوارع وأحياء حقيقية، جرى تدميرها بالكامل، وطرد سكانها منها، بحجة وجود إرهابيين فيها، وأنه يشارك عبر فعل المشاهدة، في مأساتهم!

للنظام تاريخ مشهود في استغلال الأمكنة المدمرة لتحقيق غاياته، فالسوريون يعرفون بأن واحدة من مدنهم الجميلة وهي القنيطرة، بقيت منذ العام 1973 خاوية على عروشها، تقريباً، متروكة، بعد أن انسحبت منها القوات الإسرائيلية المحتلة، فلا يستطيع سكّانها العودة إليها

للنظام تاريخ مشهود في استغلال الأمكنة المدمرة لتحقيق غاياته، فالسوريون يعرفون بأن واحدة من مدنهم الجميلة وهي القنيطرة، بقيت منذ العام 1973 خاوية على عروشها، تقريباً، متروكة، بعد أن انسحبت منها القوات الإسرائيلية المحتلة، فلا يستطيع سكّانها العودة إليها، لأن ثمة قراراً سياسياً بمنع إعادة إعمارها، وإبقائها على حالها، وجعلها مكاناً قابلاً للاستغلال والتسول، عبر جعل الوفود العربية والأجنبية تزوره، لتطلع على حجم "وحشية العدو الصهيوني"، وتقدم المساعدات للنظام باسم النازحين الجولانيين!

هل تذكرون كيف حوّل السوريون هذا الطقس الغرائبي إلى طرفة يتداولونها فيما بينهم، تدلل على استهانة الأسد الأب بقضية الجولان المحتل، وبمصالح سكان المنطقة الذين ظلوا طوال عقود -وما زالوا- نازحين؟!

مخرجان سوريان قاما بالتصوير في دمار القنيطرة، هما محمد ملص بفيلمَيه "قنيطرة ٧٤" (روائي قصير) و"الذاكرة" (وثائقي) وصلاح دهني بفيلمه "زهرة الجولان" (وثائقي)، وربما صوّر غيرهما أشياء أخرى، لكنني أجزم بأن فيلمي ملص كانا أفضل رسول يبلغ الجمهور الغربي والعربي، ليس فقط بالأذى الذي سببه الإسرائيليون للسوريين والفلسطينيين، بل أيضاً بالأسى الذي ينتجه واقع الدمار والخيبة على السوريين الذين لا يريدون أن يبقوا أسرى الهزيمة، وأن يصنعوا ذاكرة مضادّة لتلك التي صنعها المحتلون وكذلك الطغاة على حد سواء.

هذه الأفلام تشعرك بأن هناك من يفكر في جعل أي حجر في بيت مدمر ينطق بما تريد، بينما كان السوري يشعر بالعار مع كل خبر عن زيارة وفد ما للمدينة للاطلاع على دمارها. وربما عند هذا الخط بين الحالتين يتضح الفرق بين من يحدثك عبر الكاميرا عن آلام الآخرين، وبين من يتاجر بألمهم ومرضهم وأدويتهم وقبورهم!

وبالعودة إلى جاكي شان، نذكر أنه في الأفلام السينمائية وكذلك الدرامية الغربية حينما يتضمن مشهدٌ قتْلَ حيوانٍ ما، يُضطرّ المنتجون إلى خلق معادل غرافيكي له، سيبدو وكأنه حقيقي، وسيكتبون في شارة العمل أن منتجهم الدرامي كان خالياً من قتل أو أذية أي حيوان، وذلك في سبيل احترام رغبات الجمهور في عدم مشاهدة ما يضرّه نفسياً!

فإذا كان الجمهور، أو لنقل الزبون، هو من يملك القول الحسم في القضايا الأخلاقية التي تمر في الأعمال الفنية، فهل سيقبل جمهور أفلام جاكي شان أن يرى بطله المحبوب "يتمرجل" وسط دمار بيوت شعب نازح ولاجئ؟

لا يمكن التخمين حيال مثل هذا الأمر، لكن علينا قبل أن نسأل عن ردود فعل الغرباء أن نخاطبهم، ونشرح للآخرين أي فظاعة ترتكب هنا، وقبل هذا علينا أن نفكر بالأقربين، أي ذلك الجمهور الذي رأى موبقات صناع الدراما والسينما السوريين، ولم يقل رأيه؟!

بالتأكيد لا نستطيع مطالبة السوريين غير المؤيدين الخاضعين لحكم الحديد والنار في مناطق سيطرة النظام أن يمنعوا مثل هذه الأفعال، لكننا نستطيع أن نطلب منهم ألا يشاهدوها وهذا أضعف الإيمان!