القصائد في جيب حافظ الأسد

2020.07.04 | 00:02 دمشق

mbny-altlfzywn-alswry-3-1024x643.jpg
+A
حجم الخط
-A

جاء الشاعر الصنديد "علوان عين" إلى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ليَمْثُل أمام اللجنة الثلاثية، واضعاً كلامَ ضابط المخابرات العامة المقدم حسين في أذنه مثل الحَلَق. كان حسين قد قال له بصريح العبارة:

- لا تنسى يا رفيق، طوال وجودك هون في الشام، إذا بدك تضرب، وتصيب هدفك، وتوجّع خصمَك، اضروب بسيف القائد حافظ الأسد.

سأله رئيس اللجنة الثلاثية، المدير العام، عن السبب الذي جعله يترك قريته ويأتي إلى دمشق، ويختار العمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، فأجاب بهدوء وثقة:

- متلما بتعرف يا رفيق، السيد الرئيس حافظ الأسد عم يتصدّى لمؤامرة أميركية صهيونية رجعية، وياريت لو كانت الحرب اللي عم تشنها هاي الأطراف الحقيرة على سورية عسكرية، كان جيشنا الباسل تصدى لها وهزمها، إنما هي حرب اقتصادية، وسياسية، وثقافية، وأنا بشوف إنه من واجب كل إنسان عربي سوري شريف يوقف مع السيد الرئيس في هالمرحلة التاريخية العصيبة، ويحارب تحت قيادته.

تقصدَ عضو اللجنة، مدير الشؤون القانونية، أن يسأله عن تحصيله العلمي، فقال إن المفروض به أن يتخرج من كلية الآداب في نهاية السنة الحالية، ولكنه تراخى في الدراسة قليلاً لانشغاله بأعمال إعلامية (نضالية) كان يقوم بها لمصلحة فرع الحزب في محافظته، وبعض المنظمات الشعبية.

علق رئيس اللجنة، المدير العام، بذكاء:

- كنت مفكر إنه النضال ضد الإمبريالية ما بيتعارض مع الدراسة الجامعية!

قال علوان: كلامك صحيح يا رفيق، بالنسبة لغيري بالفعل النضال ما بيتعارض مع الدراسة، أما بالنسبة إلي، فنعم، بيتعارض. المشكلة إنه الرفاق في منطقتنا كانوا بيعرفوا نقطة الضعف تبعي، وكلما حاولت اعتذر عن المشاركة في احتفال أو مهرجان بسبب الدراسة، بيقلي واحد منهم (ترى هادا النشاط إله علاقة بالسيد الرئيس حافظ الأسد) فبوافق فوراً، وموافقتي بتعني إني أتعطل عن الدراسة كم يوم، منشان أكتب قصائد جديدة، وسدد للسيد الرئيس جزء صغير من واجبه علي، ومن جهة تانية أنا بكتب قصائد جديدة لأنه مو حلوة بحقي ولا بحق السيد الرئيس إني إقرأ قصائد قديمة، بايتة.     

تبادل أعضاء اللجنة الثلاثة نظرات خاطفة، وسأله عضو اللجنة، مدير الشؤون الإدارية والمالية، عن الآلية الصحيحة التي يجب على المذيع اتباعها في قراءة الأخبار.

قال علوان: هادا سؤال مهم كتير. معلوم لحضرتك يا رفيق أنا شاعر، والإلقاء هوي الحد الأدنى اللي بيمتلكه أي شاعر متمكن، ومن ضمن ذلك الاعتناء بمخارج الحروف، وضبط الإيقاعات، وتقطيع الجمل، ولما الشاعر بيلقي قدام كاميرا، أو في مهرجان، لازم يضبط إيقاعاته، ويمط الحرف اللي بيجي قبل حرف القافية، ويعرف كيف يوقف بشكل مفاجئ على حرف الروي.

على الرغم من إدراك أعضاء اللجنة الثلاثة أن علوان شخص انتهازي، ومزاود من الطراز الرفيع، إلا أن نقله إلى ملاك الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، واعتماده من قبل مديرية الأخبار لتغطية المهرجانات الخطابية، كان تحصيلاً لحاصل، ونتيجةً حتمية للاتصال الهاتفي الذي تلقاه المدير العام من المقدم حسين من شعبة المخابرات العامة الذي أفهمه، بصريح العبارة، أن وجود علوان في مبنى الهيئة يرتكز إلى ضرورات أمنية.

خلال ثلاثة أشهر الأولى من وجود علوان على رأس عمله استأجر بيتاً بالقرب من جامع الأكرم بآخر أوتوستراد المزة، وأحضر زوجته وطفلته الصغيرة من القرية، وقد سره أن زوجته سمارة قد غيرت قناعتها السابقة القائلة بأن الشغل الذي يجري زوجها خلفه عبارة عن لألأة وصرمحة وقلة قيمة، وترسخت لديها قناعة بأن علوان رجل استثنائي، قادر على استغلال الظروف المتاحة أمامه بذكاء منقطع النظير. ما زاد من رصيد علوان عند سمارة أنه راح يعتمد عليها في أمور الادخار، وكل يومين أو ثلاثة يأتي إلى البيت ويرمي أمامها رزمة نقود مبحبحة، ويقول لها:

- اليوم قبضنا البونات..

- اليوم صرفوا لنا بدل اللباس..

- اليوم غطيت مهرجان لاتحاد العمال صرفوا لي مية ألف ليرة مكافأة، ورئيس الاتحاد سلمني هاي الهدية اللي ما بعرف شو في جواتها..

وصار كلما دعي إلى خارج مدينة دمشق يطلب من مدير الإنتاج أن يحجز له سويت في الفندق، ويقول لسمارة: قومي خلينا نمضي مع بعضنا كم يوم ظراف. الدنيا مضيانة حبيبتي.

وابتدأت سلسلة ضربات الحظ الكبرى تتحقق لـ علوان مع صدور قرار المدير العام للإذاعة والتلفزيون بتفريغه للمهرجانات التي يحضرها حافظ الأسد حصراً.. هذا القرار الأخير جعل سمارة تنتقل من خانة القبول والرضا إلى خانة الحماس والتصفيق، وصارت تشترط عليه كلما ذهب إلى واحد من تلك المهرجانات أن يصطحبها معه، فتكحل ناظريها برؤية حافظ الأسد، وترصد التطورات الإيجابية التي ترتسم على وجهه أثناء إلقاء زوجِها أشعارَ المديح..

قالت سمارة لعلوان، في جلسة صفا: إن فرصة كهذه تسنح لرجل واحد بين مئات الألوف من الرجال، ولشاعر واحد بين مئات الشعراء، وإنها لا تنوي التشكيك بذكاء علوان وألمعيته، ولا يحق لها ذلك أصلاً، فهو فارس هذا الميدان المجلي، ولكن ربما كان غائباً عن باله أن بإمكانه أن يلتقي بحافظ الأسد، في المهرجان الخطابي القادم، ويسلم عليه، ويناوله مغلفاً يتضمن طلباً متواضعاً بمنحه منزلاً في دمشق، لأن السكنى تبقي المستأجر عرضة للإخلاء في أية لحظة. واستدركت قائلة إن بإمكانه أن يكتب في الطلب أن أسرته ما تزال في القرية، ومن غير المعقول أن يسكن هو في الشام بينما أسرته تعيش على بعد عشرات الكيلومترات. وأوضحت له أن الذكاء العملي يقضي بألَّا يلتقي الرئيس في بداية المهرجان، بل في نهايته، أي بعد أن يكون قد مدحه وبَجَّلَه ورفعه إلى مصاف عظماء التاريخ، ومؤكدا أن حافظ الأسد سيأمر في اليوم التالي بمنحه المنزل المنشود.

أعجب علوان بالفكرة التي طرحتها سمارة عليه، ونفذها بحذافيرها، وقد شاهدته، في المهرجان، بأم عينها وهو يسلم على حافظ الأسد بعد انتهاء الحفل، ويناوله المغلف، وحافظ أبدى لـ علوان الكثير من الاهتمام، وناول المغلف لسكرتيره الخاص.. ولدى عودتهما إلى البيت، وبينما كانت سمارة تفرغ جيوب علوان استعداداً لتعليق بدلته في الخزانة، وجدت فيه مغلفاً، فتحته فوجدت فيه طلب منح المنزل!.. فدهشت، ونادت على زوجها علوان وأعلمته بذلك.

ضرب علوان براحة يده على جبينه وقال لها:

- يا ساتر! الظاهر عطيناه المغلف اللي فيه القصائد!

خاتمة: ضحك علوان وسمارة طويلاً على هذا الخطأ، واتفقا على أن يحكي علوان الحكاية لحافظ في أول مهرجان خطابي قادم، ويعطيه المغلف الخاص بالمنزل دون أي خطأ.. ولكن حافظ مات ولم يكن هناك مهرجان قادم برعايته. وعلوان انتقل، برعاية المقدم حسين الذي أصبح برتبة عقيد، إلى الحرس الجديد، وصار من المقربين من بشار الأسد، وصار عنده بدل البيت الواحد.. بيوت.