في قرية "الملاجة" بريف طرطوس، أنشأ الفنان علي سليمان بعد عودته من اليونان مشغلا فنيّا في جوف أحد المرتفعات؛ مطبخا صغيرا للأحلام المؤجلة؛ وغرفة مترامية الرغبات. في تلك الغرفة رأيت الجدران والنوافذ وهي تتماهى في منظومة التشكيل، فتذكرت تصنيف الحواس في علم النفس الإدراكي حيث تستحوذ حاسة البصر على 74 بالمئة وتتقاسم الحواس الأربعة الباقية ما تبقى.
في ذلك اللقاء كان الحلم ثالثنا. أسئلة كثيرة مرّت بمحاذاة صمت الشواهد الرخامية والخشبية والمعدنية التي كانت تحيط بنا. هنا تشكيل يأخذ شكل الولادة، وهناك تشكيل يأخذ شكل الموت، وما بينهما تتراكم الكتل التي تمثل سمة الحياة، ومسمياتها: غزالة نسيت قفزتها في فضاء المشغل، امرأة وضعت يدها العلنية على قلبها السريّ، بعل، عشتار، لوحة مسمارية، هواجس فينيقية لم تتضح معالمها بعد، تشكيلات هندسية، قواعد رخامية، والكثير من الكتل التي ما زالت تبحث عن ملامحها.
كانت عيوني تتابع زوايا ومنحنيات المنحوتات وتشكيلها الفنيّ، وفي خاطري السؤال الذي يميّز الفنان/ المهندس علي سليمان عن غيره من الفنانين، حيث إنه في كل المعارض التي يقيمها أو يشارك فيها، يكتب بجانب أعماله الفنية عبارته الشهيرة " للعرض فقط"!
أدرك عليٌّ ذلك؛ فابتسم قائلا: "ما تراه هي أعمال فنية بنظر الآخرين، بالنسبة لي هي أفكاري، ومواقفي، ورؤيتي، واللحظات التي أمسكت بها قبل أن تهرب؛ ويطويها النسيان. هي خلاصة تجربتي في الحياة. هل سبق وسمعت أن أحدا يعرض تجربته للبيع؟".
- ولأن الحديث يفتح مغاليق الكلام، بادرته بسؤال مشتق من جوابه: هل يمكن القول إن ذاتك موجودة في هذه الأعمال الفنية، أم أن هذه الأعمال الفنية تمثل رحلتك في البحث عن ذاتك؟
بالنسبة لموقف الجمهور من الفن؛ أنا مع نظرية الفرنسي رولان بارت: "موت المؤلف". أعتقد أن كل عمل إبداعي " أدبي أو فني" هو كون مستقل؛ وخاص، ولا يجوز النظر إليه من خلال محددات مسبقة، أو اعتبارات أيديولوجية.
متى ما غادر العمل الفني أو الأدبي مؤلفه، وأصبح متداولا، يجب النظر إليه كما هو بذاته. أما بالنسبة لموقفي الشخصي من أعمالي، فيمكنني القول إنها تمثل تجربتي بكل أبعادها المعرفية والإنسانية، وهي بنفس الوقت تحمل رسائل فنية أو جمالية، يمكن اختصار ذلك بالقول إنها تمثل موقفي من الحياة والعالم.
- لاحظت وجود الكثير من جذوع الأشجار؛ والكتل الصخرية في فناء المشغل. تلك المواد الأولية كيف تختارها؟ ماهي المقومات التي يجب أن تتوفر فيها لتتحول إلى مشاريع فنيّة؟
في كل كتلة؛ أيّا كانت مادتها "صخرية أو خشبية أو معدنية" ثمة إمكانية لاستخراج حالة تعبيرية من كينونتها الطبيعية، بحسب التعاطي التشكيلي معها. فالفن بشكل عام هو إعادة تدوير للموجودات، يحدث هذا في الرسم والنحت على حد سواء. الإبداع في النحت يتمثل في طريقة معالجة المادة الأولية. في الرسم يعتبر الكون وموجوداته مفردات بصرية قابلة للتواجد في بنية اللوحة أو في فضائها، ولكل فنان طريقته في معالجة تلك المفردات، وتوظيفها.
- الآن؛ حين تستعيد ذاكرتك تلك الأيام التي قضيتها في اليونان، والمعارض التي أقمتها هناك، والمعارض التي شاركت فيها، وكذلك مشاركتك في ملتقى النحت السوري في اسبانيا عام 2009؛ كيف تنظر إلى تلك التجربة؟ وما هي الأسئلة التي تثيرها في نفسك؟
أولا؛ من حيث المبدأ يمكنني القول إن الشعوب الأوربية بشكل عام تجاوزت منذ زمن طويل التفكير بالخبز والحرية. لذلك يمكن ملاحظة تأثير الفن على النظام الاجتماعي. هذا التأثير موجود في مجتمعنا ولكن بنسبة لا تذكر.
لم تكن طرطوس بعيدة عن أحلام الربيع العربي ولم تكن "الملاجة" بعيدة عن الاحتجاجات والمظاهرات لذلك أودى بتاريخها مرتزقة الانتماءات الضيقة وعاثوا تخريبا بالنصب والتماثيل واللوحات
على المستوى الشخصي، أعتقد أن الأسئلة التي أثارتها في نفسي مثاقفة الآخر هي الإضافة الحقيقية المحفزة. أما على المستوى التقني ثمة فروق في الأدوات توفر جهدا كبيرا. والأهم من ذلك وجود حركة نقدية أكاديمية مرافقة للحركة الفنية هناك، مع الأسف هذه الحركة النقدية نفتقدها هنا، ولفقدانها تأثير سلبي على الحركة الفنية السورية، وتطورها.
- قبل أن ترتدي البلاد سواد ظنونها، قرأت اسمك في اللجان التحضيرية لـ "مهرجان السنديان" الذي كانت تحتضنه قرية "الملاجة" بين عامي 1997- 2010 ما الذي حدث بعد ذلك التاريخ؟
لم تكن طرطوس بعيدة عن أحلام الربيع العربي، ولم تكن "الملاجة" بعيدة عن الاحتجاجات والمظاهرات، لذلك أودى بتاريخها مرتزقة الانتماءات الضيقة؛ وعاثوا تخريبا بكل مرتكزات الذاكرة؛ من نصب وتماثيل ولوحات ومدرجات!
- استوقفت حركة يديه اللتين كانتا تلامسان إحدى المنحوتات بِوَلهِ العاشق، وسألته بتلك الطريقة الفجة: لماذا أنت هنا؟
لأنني لا يمكن إلا أن أكون هنا، هنا نبتت روحي، وتفتحت براعم جسدي. هنا يمكنني أن أذهب عميقاً، أذهب آلاف السنين، هذا العمق لا يتوفر لي هناك؛ وإن توفر فهو ليس لي. هنا يمكنني أن أحب، وتحمل عواطفي ذلك الحب، هناك يمكنني أن أحب، وستنوب رغبتي عن عاطفتي. هنا يمكنني أن أنظر إلى القيمة التاريخية في الكتلة الصخرية، هناك؛ تأخذ الكتلة الصخرية قيمة جمالية، وهنا أحس بالانتماء. هناك؛ أشعر بالغربة، وهل هناك ما هو أصعب من الغربة؟
لا أريد أن أكون غريباً، سأدافع عن وجودي هنا بكل أسلحة الحب والجمال. وسأرفع إزميلي بوجه نتوءات الحياة، وأدوّر زوايا الخلاف مع أحبتي. وجودي يقتضي ذلك، وإنسانيتي تقتضي ذلك، ورسالتي الفنية تقتضي ذلك أيضاً.
وجودي هنا ليس آنيّاً، إنني هنا منذ آلاف السنين، فكيف أغادر؟
بعد تلك الكلمات لم يعد ثمة جدوى لمناقشة تاريخ الفن، أو المدارس الفنية التي ينتمي أليها، فحملت صمتي وغادرت مشغله مشياً على قدمين طاعنتين في التعب، وذاكرة متخمة بصور منحوتاته التي كانت تحاصرنا من كل حدب وصوب.
سيرة
الفنان السوري علي سليمان من مواليد طرطوس 1958. حائز على شهادة بكالوريوس في الهندسة قسم الميكانيك من جامعة حلب عام 1980، ودرس الفن التشكيلي في مدارس فنية خاصة.
أعماله الفنية
سافر إلى اليونان عام 1988 ومارس هوايته في النحت على الخشب، وأقام معرضين للمنحوتة الصغيرة.
- معرض فردي في مركز ثقافي مدينة ريثمنو – اليونان – 1991.
- معرض جماعي في مركز ثقافي أثينا – اليونان -1992.
- كتلة نحتية في مدينة باليوخرا – جزيرة كريت – اليونان 1993
- معرض جماعي - مركز ثقافي حلب 1995
- معرض جماعي في المركز الثقافي الإسباني (ثيرفانتيس) 2001.
- عضو أسرة مهرجان السنديان الثقافي منسق نشاطات الفن التشكيلي.
- معارض سنوية في مهرجان السنديان الثقافي في الملاجة من 1997حتى 2010.
- معرض دائم لمنحوتاته في الملاجة.
- تنظيم ورعاية ملتقيات نحت لخمس دورات سنوية شارك فيها أكثر من ثلاثين نحاتا سوريا أنجز فيها 35 كتلة نحتية موضوعة في ساحة مهرجان السنديان الثقافي –عين البعيدة – الملاجة.
- مشاركة في ملتقى حمص للنحت على الحجر 2007.
- مشاركة في ملتقى النحت السوري في مدينة المونيكار – إسبانيا 2009.
- إنجاز كتلة نحتية على الكورنيش البحري (عجلة الزمن السوري) 2010.
- مشاركة في ملتقى طرطوس الأول للنحت على الحجر 2010.
- إنجاز كتلة نحتية وساحة مقابل المركز الثقافي بطرطوس 2010.
- مشاركة في ملتقى طرطوس الأول للنحت على الخشب (سورية أنت الأجمل) 2013.
- مشاركة في ملتقى الشيخ بدر 2014.
- مشاركة في ملتقى طرطوس 2015.
- مشاركة في ملتقى مشتى الحلو 2016
- مشاركة في ملتقى جرمانا دمشق 2018
- مشاركة في ملتقى سيلينا الثقافي عيون الوادي 2019
- مشاركة في ملتقى سيلينا الثقافي عيون الوادي 2020
- مشاركة في ملتقى النحت الأول طرطوس جونادا ريلييف على جدار صخري 2022
- مشاركة في ملتقى النحت السنوي جونادا طرطوس 2024
- إنجاز كتلة نحتية حجر تدمر ارتفاع مترين. اللحن الحزين عازفة تشيللو. الملتقى الثقافي مشتى الحلو بعنوان "الزيتون جذور الحياة"، آب 2025. النحت على جذوع شجر الزيتون.
- معارض جماعية وفردية لنقابة المهندسين السنوي وفي مهرجانات طرطوس الثقافية.

