icon
التغطية الحية

الفنان التشكيلي السوري محمد طليمات.. من المفهوم الأوروبي للوحة إلى مفهوم النسيج

2021.11.08 | 12:23 دمشق

الفنان التشكيلي السوري محمد طليمات.. من المفهوم الأوروبي للوحة إلى مفهوم النسيج
من لوحات الراحل محمد طليمات
+A
حجم الخط
-A

في سنة 2014 خُطف الفنان التشكيلي السوري محمد طليمات في مدينة حمص وهو يمرّ بأحد الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام، وتبين فيما بعد أنه مطلوب تقديم فدية باهظة مقابل الإفراج عنه من عصابة شّبيحة. بعد شهر من المفاوضات والمساومات مع عائلته تم الاتفاق على دفع 8 ملايين ليرة سورية وتسليمه في مكان معين. في الموعد المقرر، تستلم العصابة المبلغ وتتم خديعة عائلته فلا يتم تسليمه ولا أحد يراه! لقد تم قتله سواء قبل الموعد أم بعده. وعلى الأغلب وضمن سياق السقوط الشامل للقيم والأخلاق، قتلته العصابة لأنه أمضى شهرا معها وصار في حوزته معلومات عنها وعن أماكن تواجدها. فتمّ التخلّص منه كي لا يبقى شاهداً على شيء. وبذلك يفقد الفن التشكيلي السوري واحداً من أسمائه الحمصية الهامة في حرب مجنونة ومجتمع متفسّخٍ لم يعد شيء يضبط أخلاقه مع انهيار الدولة المنهارة أصلاً.

 

الفنان التشكيلي السوري محمد طليمات.. من المفهوم الأوروبي للوحة إلى مفهوم النسيج
التشكيلي الراحل محمد طليمات

 

الفنان التشكيلي السوري محمد طليمات تجربة تعبّر عن ذاتها بكل خصوصية واضحة من خلال إصراره على الابتعاد عن التعقيدات الحداثية الأوروبية في اللوحة. وهو مهجوس باكتشاف العناصر الشرقية ومفردات التشكيل الشرقي والإسلامي من منمنمات وزخرفة ونسيج ورصف.. إلخ، ليخلق من ذلك لوحة تخاطب ثقافة وذائقة المتلقي العربي والشرقي بشكل عام. ومع ذلك فهو ينجز لوحته بكل ثقافة حديثة وأصيلة في وقت واحد.

اللحظة الأولى التي تخلّقت فيها لوحاته الأولى ما تزال بعد عشرات السنين حاضرة في ذاكرته.

وهذه اللحظة ضبابية تعود به إلى حيث كان صغيراً يرسم الشجرة والنهر والقمر وظلال الشجر على الماء. وتعود إلى الأحاسيس الرومانتيكية في طفولة أو مراهقة الإنسان. كان يرسم نهر العاصي وظلال الشجر على النهر ويستمتع برسم الفراغ والهدوء.. كان حالماً رومانتيكياً.

 

من لوحات طليمات
من لوحات طليمات

 

بدايات اللوحات كانت هكذا. هذه اللحظة تدعه الآن يحيا مشاعر الشاب الذي كان يحلم. ما كان يفهم ما هي اللوحة وكيف يجب أن تبنى وماذا سيضع فيها من مفاهيم وقيم. كان يهمه تجسيد رؤية محدودة.

مع ذلك لا يخطر في باله وهو في العقد الخامس من عمره إعادة صياغة بعض هذه اللوحات القديمة من موقعه الآن. فمرحلة الطفولة والشباب انتهت، وهو في كهولته إنسان مختلف عما كان عليه في تلك اللحظة. إذ كان يجلس مع أصدقائه على نهر العاصي ويستمعون إلى محمد عبد الوهاب ويشكلون صوراً وأحلاماً يستمتعون بها وتجعلهم يحسون بوجودهم ويتآلفون مع داخلهم.

تحدث لي عدة مرات عن تجاوزه لتجاربه القديمة التي كان يرى ألا خصوصية له فيها. ثم انتقل للبحث جاداً عن شخصيته الفنية المستقلة،

فقد جاءت فترة أحسّ فيها أنه مثل الآخرين. وأنهم كلهم يشتغلون على ما أبصروه ويحاولون تقليده. فأحبّ أن يتمرد على هذه المعطيات والرؤية وأن يشكل وحده رؤية مختلفة تلتصق ببيئته وتاريخه وناسه والحياة التي يحياها في بلده مع الأرض والشجر والبيوت القديمة والزخارف والأسواق والبشر والحيوانات والزهور المنزلية القديمة. وصار يسترجع الذاكرة مستعينا بمشاهداته في البيئة التي تحدث عنها وفي السوق والعطور والتوابل.. وبشكل عام مستعيناً بالشرق ومكوناته الثقافية والحسية والدينية والاجتماعية وصار يلتقط بعض الرموز من هذا التاريخ الموغل في القدم ويضعها في لوحاته معيدًا تشكيلها ضمن بيئة جديدة مفعمة بالجمالية والحس البدائي الفطري المرهف بعيداً عن تعقيدات الحضارة الحديثة والزمن الصعب الذي نعيشه وتأثير الثقافات الأخرى الطاغية.. لقد حدث ذلك عام 1996

العمل على مفهوم (النسيج) في اللوحة

معارضه قبل عام 1996 كانت تتضمن أعماله التي كانت على النمط الأوروبي أو المفهوم الأوروبي الحديث للوحة. بعد هذه المعارض اختلف مفهوم اللوحة عنده وأخذ يتشكل ما يسميه مفهوم (النسيج) في اللوحة. وذلك بعد أن تساءل عن تلك الأعمال الجيدة التي كان يشتغلها: لماذا نقلد فيها الغرب بمفاهيمه؟ نحن لدينا مفاهيمنا الخاصة فلماذا لا نبحث عنها ونوظفها في لوحاتنا؟ لأنه تعبر عن شخصيتنا في مجال الفن وتبعدنا عن أن نكون مثل الآخرين..

 

من لوحات طليمات
من لوحات طليمات

 

بدايات هذه المرحلة كانت غائمة. والعناصر ما كانت حاضرة لكن مع الاستمرار والتأمل والتجريب والخطأ والصح بدت رويدا رويدا تبرز مفردات خاصّة أخذت شيئا فشيئا تزداد وتصبح غنية أكثر. وصار يوظفها بأشكال وطرق مختلفة في اللوحة. من هذه المفردات: (المنمنمات – السجاد – المطرزات – البيوت والشبابيك القديمة والشجر والنباتات المنزلية والحيوانات..)

أما عن النسيج فأن تنسج اللوحة يعني أن تكون العناصر متشابكة مع بعضها ومع الأرضية بشكل مسطح وبدون بعد ثالثٍ، فتحسّ باللوحة وكأنها نسيج محبوك..

هل رفض البعد الثالث لأنه مفهوم أوروبي؟ طبعاً لأنه مفهوم أوروبي. حيث ظهر المنظور مع عصر النهضة وما يسمونه بـ (التكوير) أي تجسيد الأشياء بواسطة الظل والنور. أما في النسيج فاللون والخطّ وتشابكهما على السطح هما مكونات العمل.

يذكّر هذا بما كان يتحدث به نقادنا وشعراؤنا القدامى من أن القصيدة (منسوجة أو محبوكة) هل ثمة علاقة بين التوصيفين؟ بكل تأكيد هناك علاقة. القصيدة العربية تخلو من الفراغ وتُحبَك على مفهوم (الرّصْف) حتى أنها في كثير من الأحيان تتضمّن كثيرا من العناصر المتكررة سواء بالنغمة التي هي العروض أو القافية في نهاية البيت. ولذلك فالقصيدة القديمة ليس لها مضمون واحد وإنما صور متعددة يمكن أن تستمر حتى اللانهاية. وكثير من الشعراء ينظمون قصائد مطولة من آلاف الأبيات على القافية نفسها والإيقاع نفسه. ويبدو أن هذه الحالة سواء في الفنون القديمة أو الشعر هي حالة شرقية بحتة. حتى في الموسيقا تكون النغمة متكررة وبإيقاع واحد من أول الأغنية حتى آخرها، مع تلوينات خاصة داخل اللحن نفسه. وهذا ينطبق على مفهوم هندسة العمارة الإسلامية أيضا، فهو التكوين الهندسي الذي تتميز به الزخارف في البيوت القديمة..

ضد تسمية اللوحة أو المعرض

طليمات كان يعرف بأنه ضدّ تسمية المعرض باسم معين وضد تسمية اللوحة بعنوان ما. ويرى أن تسمية اللوحة يعني إطلاق مفهوم أدبي وفكري على العمل. وهذا بحد ذاته بعيد عن لغة التشكيل. فاللوحة عبارة عن مجموعة من العناصر تتآلف تشكيلياً ولونياً بشكل يؤثر على المشاهد بلغة اللون والخطّ والمساحة، وهذا ما يشكل خصوصية العمل التشكيلي.

 

من لوحات طليمات
من لوحات طليمات

 

يقول طليمات: "لنفرض أنك تمشي في (سوق الحشيش) [هو اسم لسوق شعبي في مدينة حمص تباع فيه الخضراوات الأعشاب والحشائش] وأخذت نظرة كلية على المكان تجد أن المكان مؤلف من دكاكين وخضرة وبياعين وأصوات وعربات وناس مختلفين نساء ورجالاً... هو عالم متكامل لا يمكن أن يندرج تحت عنوان. العنوان الوحيد له هو الحياة. وإذا كنتُ أرسم في لوحاتي كل هؤلاء الناس فستأخذ كل لوحاتي اسما واحدا هو الحياة".  

فضاء اللوحة عنده يبدو مليئاً ومشبعاً بالعناصر اللونية وليس هناك فراغات، ما يسهل عليك أن تخلق للوحة إيقاعها المتجانس بين جميع زواياها..

والحقيقة أن العمل بمفهوم (النسيج) هو أنك تملأ اللوحة بكاملها بالعناصر وهذه العناصر بشكل عام تكون مرتبطة ومتآلفة مع بعضها فكأنها منسوجة نسجاً. وهي تملأ اللوحة بشكل يوحي لك أن اللوحة ممكن أن تمتد إلى اللانهاية وغير محدودة ببؤرة خاصة بمساحة اللوحة، إنما هي جزء من التصور عمل لانهائي.

حين سئل عن إيقاع اللوحة وهل تفضل استعمال هذا المصطلح أم ماذا؟ قال: "الإيقاع هو رِتمٌ متكرر وأنا لوحتي رِتمٌ متكرر وليست جملة لحنيّة واحدة".

لهذا نرى أن العالم المتشكل في فضاء لوحته لا ينتهي عند إطار اللوحة بل يمكن للمشاهد بكل سهولة أن يكمل هذه العالم في مخيلته منطلقاً مما شاهده في لوحته..

 

من لوحات طليمات

 

وهو بذلك مستندٌ إلى تجربة المفهوم الشرقي أو الشرق أوسطي أو الإسلامي بشكل خاصّ المعتمد على (التكرار). ولذلك نجد في أعماله عناصر متشابهة متكررة على كامل سطح اللوحة مما يجعل المشاهد يحسّ بأنه يستطيع أن يمدّد اللوحة في كل الاتجاهات إلى اللانهاية بالعناصر نفسها وبالإيقاع نفسه. ولديه رؤية خاصة حول (إطار اللوحة). فهذا الإطار يُشعره بالكبت. يقيده ويخلق عنده إحساسًا بأنه ليس حرّاً. وسوف نرى في كثير من لوحاته أنه لا يحبّذ تأطيرها، تاركًا إيّاها بأبعادها الأساسية وكما هي.

مفهومه حول التكرار، ونسيج اللوحة، وعدم التأطير، يقود إلى تلمّس (الذاكرة البدائية) التي تغذي لوحته وتشكل مصدرا حاضرا دائما لديه. فكيف يوفق بين انتماء عمله الفني للحداثة وبين انطلاقه من عناصر بدائية قديمة؟ وإلى أين يقودنا ذلك على صعيد الكلام عن تأصيل العمل التشكيلي؟

يرى محمد طليمات أن الحداثة هي الحرية. هي ثورة على القيم التي تؤطر الإنسان. ومفهوم الحداثة هو مفهوم تمرد على القيم والأطر التي تشكلت في الماضي والتي وضعت الفنان ضمن مفاهيم محددة. فحتى تكون فناناً محدّثاً عليك أن تتمتع بحريتك الكاملة وتخلق مفاهيمك وقيمك الخاصة بغضّ النظر عن المفردات الفنية التي تستعملها. ثم إن إحضارك للذاكرة القديمة والحديثة وتوظيفها في لوحاتك لا يعني أن تستحضر القيم القديمة بل أن تستخدم هذه المفردات والعناصر بحرية وبشكل جديد وأطر جديدة تناسب شخصيتك وعملك الخاص. بمعنى آخر: أن تتحرر من كل القيم القديمة وتعمل بحرية لخلق شيء جديد ربما يستحضر بعض الذكريات والمشاهدات القديمة ولكن بصياغة حديثة.

 

من لوحات طليمات
من لوحات طليمات

 

وهو يؤمن بذلك على الرغم من أنه انقلب على المفهوم الأوروبي الحديث للوحة في الوقت الذي يعني هذا المفهوم الأوروبي تصوراً مهمّا حول الحداثة والحرية للفنان. وهو لا يرى تناقضاً في ذلك، فالمفهوم الأوروبي الحديث صاغ الحداثة معتمداً على مفهوم الحرية أي أنك حرّ في صياغتك للمفاهيم. وتكريس ما هو متلائم مع شخصيتك الفردية بما فيها من صيغ جديدة وذاكرة نقدية ثورية تجتثّ القيم القديمة. وهو لا يعارض هذا المفهوم إنما يعمل ضمنه ولكن بصياغة خاصة تستند إلى مكوناته الثقافية والتاريخية والحياتية والنفسية.

ينأى محمد طليمات بلوحته عن أن تكون ذات موضوع أو فكرة ثابتة. ويزجّ هذه اللوحة في إحساس المتلقي ووجدانه قبل أن يقرأها بعقله... ففي رؤيته حول العمل الفني الذي ينطلق من مقولات أدبية أو سياسية مسبقة لتوظيفها في العمل الفني يرى ضرورة الابتعاد في لوحاته عن المفاهيم الأدبية للوحة مثل: (المفاهيم العامة – البؤس والشقاء والمعاناة والفرح...) وما شابه من عناوين عقلانية مباشرة تصدم المشاهد وتضعه ضمن إطار مفهوم محدد. مفضّلاً أن تكون اللوحة عبارة عن مفردات بسيطة سواء لونية أم شكلية تضع المشاهد أمام حالة عامّة حسيّة تطرق مشاعره بدون ضغط الانفعال المحدد والمباشر الذي يكون كحالة قسريّةٍ تجبر المشاهد على الإحساس بما يريده الفنان. هو يرغب أن يدخل المشاهد إلى لوحته من ضمن عناصر بسيطة جدا وجميلة تدغدغ فيه حسّه الفطريّ والطفوليّ وتكون مريحة سهلة غير عدوانية تشيع السلام في النفس والراحة في القلب.

"التشكيل لدينا مازال يعمل على المفهوم الأوروبي"

حين حدثني مطولاً عن ذلك، قلت له: أنت تخاطب المناطق المنسية أو الجوانب المهمّشة في أعماق هذا المشاهد  وتحرك لا وعيه وبالتالي من هنا جاء تركيزك على الأشكال الأسطورية واستخدامك لأدوات التعبير الأولى عند الإنسان الأول الذي كان يرسم على جدران الكهوف والمعابد ويكتب على الرّقُم؟

فقال: "أنا متأثر جداً بالفن القديم ورسوم الإنسان البدائي في الكهوف والمغاور. متأثر بإنسان الحضارات القديمة الذي يوظّف الرسوم لغايات أحياناً أسطورية وأحياناً دينية يخاطب بها الطبيعة والقمر والشمس والإله.. كما أنني معجبٌ بالرسوم البسيطة التي ينسجها النساجون على القماش والسجاد والبُسُط بألوانه الرائعة وتشكيلاتها الجميلة. كما متأثر بالمطرزات وبالرَّصْفِ الزخرفي للسيراميك والرخام وهذا ما يغنيني عن صياغة الأفكار العامة والمقولبة ويجعلني أستعمل رموزاً بسيطة تطرق ذاكرة المشاهد سواء في حياته الخاصة أو مشاهداته المتراكمة عبر الزمن لأعمال الناس القدامى البسطاء. وأحيانا أغرم بما يفعله الطفل حين يرسم وكيفية تبسيط الأشياء لأداء فكرة بكل بساطة وفطرية. كل هذه الأشياء تشكل المفردات التي تتناثر على لوحتي وتعطيها التنوع والعمق والبعد الزمنيّ والحسّيّ الذي يتشكل عبر الثقافات المختلفة في العصور المتتالية".

 

من لوحات طليمات
من لوحات طليمات

 

أخيراً، من خلال تجربة وخبرة محمد طليمات للوحة ومفهومها الشرقي، كيف ينظر إلى راهن الفن التشكيلي السوري أو العربي؟ إنه يرى أن الفن التشكيلي السوري بشكل عام (مع بعض الاستثناءات) ما زال يقلّد المفهوم الغربيّ للوحة ولم يشكل لحدّ الآن الخصوصية الخاصة به سواء بالمفهوم أو بالأداء. ولا تنقصه الجرأة حين يرى أنه يقصد أيضاً لؤي كيالي وفاتح المدرس، اللذين بحسب رأيه اشتغلا من داخل المفهوم الغربي للوحة. ولكن ثمة بعض الأشخاص يحاولون استلهام الفن الإسلامي والشرقي بعضهم في سوريا وبعضهم في المغرب والجزائر ويراهم قلّةً. ويشير في هذا الصدد إلى بعض الفنانين الذين التزموا لما يسمى (الحروفية) ولكن حتى في هذا النطاق عملوا بنفس المفهوم الغربي.

الفنان التشكيلي محمد طليمات

  • ولد الفنان محمد خضر طليمات (1941 – 2014 ) في مدينة حمص. درس الهندسة في حلب وعاد بعدها إلى مدينته حمص ليعمل في مديرية الموارد المائية. غادر سوريا متنقّلاً ما بين ليبيا ومصر والمملكة العربية السعودية والكويت. ثم رجع واستقر في مدينته حمص وتفرغ للفنّ. 
  • يعتبر من المؤسسين الأوائل لجمعية الفنون التشكيلية في حمص.
  • له معارض في روما، باريس، بيروت، الرياض وشيكاغو.