الفتوى

2020.04.14 | 00:05 دمشق

ftwy_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

الفتوى آلية ذهنية تقوم على الاستدلال أو الاستنباط، وليس من فارق يُذكَر بين هذين المصطلحين إلا كون المشتغلين بالعلوم (الصورية) أو الأكثر تجريداً أشد ميلاً إلى استخدام مصطلح الاستنباط، كما هو الحال في العلوم الرياضية والقانونية. وتتمثل الوظيفة الأساسية للفتوى في (استخراج الأحكام الشرعية) من أدلتها التفصيلية في الكتاب والسنة. ويشترط بمن يصدرها إتقان اللغة العربية والتمكن من علوم القرآن. نذكر منها على سبيل المثال المكي والمدني، أسباب النزول، أنواع السند، المطلق والمقيد، الناسخ والمنسوخ.. وغيرها كثير يمكن العودة إليه في مظانه الأصلية. كما يشترط بالمفتي أن يكون متقناً لعلوم الحديث. نذكر منها على سبيل المثال السند والمتن، أنواع السنة: السنة القولية، السنة الفعلية، والسنة التقريرية، وغيرها كثير. والأهم من ذلك كله، امتلاك القدرة على توظيف كل هذه العلوم في إجراء الاستنباط الشرعي.

ولقد أفاض علماء (أصول الفقه) في شرح (الاستنباط الشرعي)، وأبانوا شروطه وأحكامه. والمفهوم الرئيس في هذا النوع من الاستنباط، هو مفهوم (العلة) ودورانها مع المعلول. فجوهر هذا النوع من الاستنباط قائم على حضور العلة أو غيابها. فالحضور أو الغياب معناه الدقيق (الاشتراك في العلة) بين أمرين أو انعدام هذا الاشتراك. فإذا قام، انسحب الحكم القديم (المستنبط من النصوص القديمة) على الواقعة الجديدة، أي على الحادثة التي يطلب فيها رأي المفتي، تحليلاً أو تحريماً. فإذا لم يشتركا في (دوران العلة)، تعذر اطلاق الحكم القديم الذي تتضمنه العلة على الحادثة موضع الاستفتاء. وهذا هو جوهر (الاستنباط الشرعي للأحكام الفقهية).

ومنذ القدم شهدت الساحة العلمية الإسلامية جدلاً مطولاً، ما يزال مستمراً، بين المناطقة والفلاسفة من جهة وبين الفقهاء وعلماء الأصول، من جهة أخرى، حول ما إن كان هذا النمط من الاستدلال، أعني (الاستنباط الشرعي) مختلفاً – من حيث الماهية أو الأفعال الذهنية التي يؤديها العقل في استدلاله – على  الضروب التي يحددها (المنطق الصوري)، أو ما إذا كان هذا النمط من الاستدلال، الذي يستخدمه الأصوليون، يشكل نمطاً مستقلاً، لا صلة له بالمنطق الصوري من قريب أو بعيد. وهذا الرأي هو ما تأخذ به جمهرة المشتغلين بعلم (أصول الفقه) ومن يطبقونه في استخراج الفتاوى. والاستثناء الكبير في ذلك حجة الإسلام (أبو حامد الغزالي). وأما الفلاسفة والمناطقة، فلم يكفوا عن التأكيد بأن طرائق الاستدلال التي يقوم بها العقل البشري واحدة، حتى وإن تنوعت ميادين تطبيقها، في المنطق أو القانون أو الفقه، وحتى في العلوم الرياضية نفسها، بما في ذلك الصور المختلفة للاستنباط داخل (علم الهندسة).

هذا الطابع الصوري للفتوى يقربها، بل يوحدها بالعلوم الإستدلالية. وإلى هذا الطابع نفسه يرجع الفضل بإضفاء صفة الكلية على مايسميه الأصوليون (بالقطّْعية والثبوت). ومما يعمق هذه (الكلية) ويعززها كون (الفتوى) مقترنة وجوباً بالدين، أي دين، وكل دين. فالدين – بطبيعته - ينظر إلى (منظوماته العقائدية والفكرية)، باعتبارها منظومات مغلقة، أي غير قابلة للتعديل، ومكتفية بذاتها ومنطوية على كامل اليقين، وهي فوق ذلك أزلية أبدية، لا يتطرق الباطل إليها ولا النسبية، لأنها مطلقة الصدق والكمال. ومادام الأمر كذلك فهي صالحة لكل زمان ومكان. وبذلك تبلغ الصورية مداها، وتصبح الفتوى ممكنة، أي تصبح المبادئ الصورية ذات الصدق المطلق – أي النصوص المقدسة – قادرة على إقناع البعض برد الحاضر إلى المبادئ الصورية القديمة التي توصف بأنها كلية الصدق بسبب أزليتها وأبديتها.

من الممكن تعريف الفتوى بأنها "الكشف عن الحكم الشرعي للمستفتي، لبيان حكم نازلة من النوازل، أو حادثة من الحوادث المستجدة.. بهدف تصحيح أقوال الناس وأفعالهم وسائر أحوالهم"

ولهذه الاعتبارات مجتمعة، خاصة وأننا قد استوفينا الحديث عن طابعها الاستدلالي، أصبح من الممكن تعريف الفتوى بأنها "الكشف عن الحكم الشرعي للمستفتي، لبيان حكم نازلة من النوازل، أو حادثة من الحوادث المستجدة.. بهدف تصحيح أقوال الناس وأفعالهم وسائر أحوالهم" . وتعريف (المفتي) بأنه "عالم بالأحكام الشرعية والمستجدات، وله من العلم مايمكنه من استنباط (الحكم الشرعي) من أدلته، ثم يسقطه على الحال المستفتى فيه".

ومن شأن ذلك كله أن يكشف عن الأهمية الاستثنائية للفتوى، حتى لقد مضى علماء الشريعة إلى عدِّها (توقيعاً عن رب العالمين، وبياناً لمراده من أحكام التشريع). ولعل هذا ما دفع بواحد من أشهر علماء المسلمين (ابن القيم) إلى أن يؤلف كتاباً عنوانه (أعلام الموقعين عن رب العالمين) رفعاً لمكانة الفتوى، وتعزيزاً لهيبة المفتين. ومن المستغرب حقاً أن يشغل إنسان - مهما سمت منزلته الأخلاقية وقدراته العقلية - هذه المكانة وأن يؤدي هذه الوظيفة، على الرغم من اعتراف الجميع باحتمال وقوع هؤلاء (الموقعين) في الغلط والزلل الذي لا انفكاك له عن الطبيعة البشرية.

ويجمع المسلمون، على اختلاف مراتبهم العلمية ومواقعهم الاجتماعية على أن الله هو (المفتي) الأول والأخير. فقد أفتى (الله) لعباده إذ قال: "ويستفتونك في النساء. قل: الله يفتيكم فيهنّ" (النساء: 127). ويقول أيضاً: "يستفتونك في الكلالة. قل: الله يفتيكم في الكلالة". (النساء: 176). والحقيقة أن المسلمين - من حيث المبدأ - لم يواجهوا مشكلات تتعلق بالفتوى والأحكام الشرعية ما استمر النبي حياً بينهم. فقد كان المؤمنون يتوجهون إليه بالسؤال فيما يُشْكل عليهم من أمر حياتهم. وكان النبي يفتيهم (بسنته)، مباشرة أو يستفتي الوحي ويعود إليهم بالجواب. ولذلك كان من الطبيعي ألا يفكر المؤمنون الذين عاصروا الرسالة وصاحبها، من أي وجه من الوجوه، أنهم في حاجة لأي شخص يجتهد عنهم ويفكر لهم.

ولكن كلما تباعد الزمن بأجيال المؤمنين عن لحظة انبجاس الرسالة، كلما مست الحاجة إلى الفتوى التي يسعى المفتون من خلالها إلى ردم الهوة التاريخية والزمنية التي أصبحت تفصل بين نصوص القرآن والسنة وبين العصور الجديدة وتحدياتها المختلفة مما يجعل بعض المؤمنين بهذه النصوص يراجعون مواقفهم منها، فإذا ببعضهم أيضاً قد أصبحوا في زمرة المتشككين والمرتابين. وأما من لم يمس الارتياب عقولهم، فسيظلون مستمسكين بأهداب الفتوى، حماية لأنفسهم، ووقاية لها من مواجهة العصر ووقائعه المتغيرة، وفراراً من حريتهم الشخصية، تقديساً للنصوص، وإعلاءً لها على حق الضمير الأخلاقي لكل منهم في أن يكون حكماً ومرشداً يهتدي المرء بنوره الفطري إلى تمييز الأحكام الصائبة والصادقة من الأحكام الزائفة والفاسدة.

وما يستخلص من ذلك هو أن (المقدس) في مواجهة دائمة مع الزمن، وبخاصة مع (الحاضر)، طالما أن هدف الفتوى ليس إلا إعادة صياغة الحاضر ليمكن استيعابه واستدماجه واختزاله داخل قوالب صورية قد صيغت لزمان غير هذا الزمان، ولمكان غير هذا المكان. وهذه المواجهة ناجمة عن النزعة الصورية التي لا تلحظ إلا الضروب المُنْتِجة في الاستدلال، فلا تصل من ذلك إلا إلى القوانين الصورية المجردة الفارغة من كل مضمون. فتكون النتيجة التضحية بالخبرة الحية التي تتكون عبر الجدل بين الأفراد وظروف حياتهم التاريخية والسياسية والاجتماعية داخل كل عصر بعينه.

وقد تعزز هذا الميل الصوري المجرد مع شروع الملسمين في جمع الأحاديث النبوية بواسطة (بخاري ومسلم) وغيرهما من المحدثين. ومن ثم انبنى على هذا التراث الجديد ميل فقهي محافظ تقليدي متشدد، في مقابل (فقه الرأي) الذي كان أكثر انفتاحاً وتسامحاً مع مستحدثات العصر، وطرز العيش الجديدة التي عاش وفقاً لها الناس في العصرين الأموي والعباسي، بعد ما امتد الملك العربي ليؤسس واحدة من أكبر امبراطوريات العالم وأشدها اتساعاً.

طُرُزُ الحياة الجديدة هذه، وطرائق التفكير المبتدعة، قد أفضت إلى المناقشات المبكرة في (علم الكلام)، وانتهت عند الكثير من المتكلمين – لاسيما المعتزلة – إلى الدفاع عن (حرية الإنسان)، وعن (حق العقل) في تأويل النص المقدس بحسب العقل نفسه. وكرد فعل على ذلك، تحولت (الفتوى) في أيدي المحافظين إلى سلاح استخدم في إدانة كل ماهو جديد في الفكر والحياة، وفي الإلحاح على العودة إلى ما ظنه المحافظون – خطأً آنذاك- أنه بساطة العيش وخشونته أيام (الخلفاء الراشدين) والصحابة والتابعين.

وقد استمدت الفتوى قوتها من الدعوة العاطفية الحارة للعودة إلى (الأصول) الأولى للإسلام، وقياس كل جديد عليها. فنجم عن ذلك أن أصبح (التكفير) صفة ملازمة للتجديد والمجددين. وإلى هذه النزعة التكفيرية يمكننا أن نرد – من حيث النشأة – سائر الدعوات الأصولية التي نشأت على امتداد التاريخ الإسلامي، ابتداءً من (المذهب الحنبلي) وانبعاثه في صورة الإسلام الصحراوي لدى (الوهابية) في القرن الثامن عشر، وما تناسل من هذه الحركة من أصوليات إرهابية (كالقاعدة وتنظيم الدولة)، وما تناسل منهما من تنظيمات إرهابية حملت معظمها ألقاباً تنسبها إلى (الشام والإسلام) وما شاكل ذلك من أسماء اتخذتها لنفسها الأصوليات المعاصرة التي شكلت ظاهرة (الإسلام السياسي)، والتي لعبت دوراً بارزاً، جديراً بالدراسة، في إضعاف (الثورة السورية) وحرفها عن مسارها الأخلاقي والسياسي والإنساني، وفي ممارسة الإرهاب ضد السوريين في المناطق المحررة، على نحو مواز ومكمل، لما كان يقوم به النظام ضد المواطنين في المناطق التي كانت ما تزال تحت سيطرته في تلك الآونة. ولقد كان (الشرعيون) في تلك المنظمات الإرهابية، هم المشرعين لتلك الأفعال وتلك الاعتداءات، بما في ذلك شن الحرب على (الجيش الحر)، بدلاً من مقاتلة النظام ومليشياته ومرتزقته.

وإزاء كل ذلك، ليس من مندوحة عن الانخراط في (تنمية الوعي الذاتي الفردي بذاته)، مقدمة لاستعادة الإحساس، بالحرية والكرامة الشخصية ويقظة الضمير الأخلاقي. فبذلك – وبذلك - فقط ينفتح الطريق من جديد، ليكون (العقل) حاكماً على كل شيء، بدلاً من أن يكون محكوماُ، من جانب أية سلطة، حتى ولو كان اسمها (سلطة الإفتاء).

كلمات مفتاحية