الغزو الروسي وتشكل الهوية الأوكرانية

2022.06.08 | 06:46 دمشق

464646-743967686.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثيرة هي العائلات السورية (والعربية أيضا) التي تضم بين أفرادها امرأة (روسية) تزوجها الشاب في أثناء دراسته في الاتحاد السوفييتي السابق، أو في أوكرانيا وروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. التفصيلات الإثنية الدقيقة حول عرق الزوجة، الروسي أو الأوكراني، لم تكن تعنينا؛ فغالبا ما يكون رد أحدنا على توضيح بأن المرأة أوكرانية لا روسية بجواب: لا فرق بينهما، أو هل يوجد فارق كبير بينهما؟

هذا الالتباس في رؤيتنا للفارق بين الروس والأوكرانيين عبّر عنه الرئيس الروسي بمقالة نشرها في تموز من العام الماضي، وفي المقالة يحاجج بأن الأوكران والروس هم شعب واحد، وأن الأراضي الأوكرانية هي أراض روسية، ويضيف في مقالته بأن أوكرانيا نفسها لم تظهر كدولة مستقلة إلا حين ارتكب البلاشفة خطيئة تاريخية، فشكلوا الكيان الأوكراني الحالي. وفق هذه الرؤية لا تغدو الحرب الروسية على أوكرانيا حرب مصالح ونفوذ، هدفها انتزاع تنازلات أو الرضوخ لمطالب روسيا، فالحرب من وجهة النظر الروسية تصحيح لخطأ تاريخي، وحرب معلنة على وجود أوكرانيا نفسها.

تشكلت "الجمهورية الأوكرانية" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في سياق مشابه لقيام مملكتنا السورية العربية المغدورة، ومثلها أيضا لم تعمر الجمهورية الأوكرانية أكثر من ثلاث سنوات (1917-1920)

مثلها مثل أغلب الحركات القومية، نشأت الحركة القومية الأوكرانية في القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كانت فيه الأراضي الأوكرانية الحالية موزعة بين روسيا القيصرية والإمبراطورية النمساوية المجرية. كانت الحركة ردا على السيطرة الخارجية، ولهذا عمل المفكرون والكتاب الأوكرانيون على إذكاء الشعور القومي وإحياء اللغة الأوكرانية، والبحث عن الاستقلال وحق تقرير المصير، والتنظير لوجود أمة أوكرانية مستقلة تعود إلى القرن التاسع الميلادي. باختصار حاولوا إيجاد سردية قومية تشابه كل السرديات القومية الأخرى. هكذا تشكلت "الجمهورية الأوكرانية" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في سياق مشابه لقيام مملكتنا السورية العربية المغدورة، ومثلها أيضا لم تعمر الجمهورية الأوكرانية أكثر من ثلاث سنوات (1917-1920).

على امتداد الحقبة الشيوعية، حاول الاتحاد السوفييتي أن يزيل الفوارق بين الروس والأوكرانيين، وعلى الرغم من أن النسخة السوفييتية من روسيا اعترفت بالتعدد الإثني والفوارق الثقافية، فإنها عملت على التوكيد على وحدة الشعبين، والمصير التاريخي المشترك بين الروس والأوكرانيين، دون بقية القوميات التي تكون منها الاتحاد السوفييتي.

ومع أن كلا من روسيا وأوكرانيا، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، تبنت السردية التاريخية السابقة للعهد السوفييتي، فإن أشد المتشائمين لم يتوقع أن يصل الصدام بين السرديتين إلى الحرب في نهاية المطاف، ولاسيما أن الهوية القومية الأوكرانية، على خلاف الكثير من القوميات في العالم، لم تتشكل ضد آخر معين، فلم تكن روسيا هي الآخر في الوعي الجمعي الأوكراني، بل كان ينظر إليها على أنها الشقيق الأكبر.

غير أن كل هذا تغير مع ضم روسيا للقرم في عام 2014م. لقد تحول الخلاف أو الخصومة إلى عداوة، أطلقت السلطات الأوكرانية على إثرها حملة ضد كل ما يمت للحقبة السوفييتية التي نظر إليها على أنها حقبة روسية، فأعيدت تسمية ما يقارب خمسين ألف شارع، وألف قرية ومدينة في عموم أوكرانيا، ووصل الأمر إلى حد تشريع قانون يساوي بين الرموز السوفييتية والرموز النازية، ويجرم استعمالها في الفضاء العام.

وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات، فإن جزءا لا يستهان به من الأوكرانيين ظل على ولائه لروسيا، أو لرغبته في الانضمام إليها، وخصوصا في الأجزاء الشرقية من البلاد التي يشكل فيها المنحدرون من أصول روسية والمتكلمون بها أكثرية السكان. الأمر الذي ظهر في سهولة ضم القرم، والحركات الانفصالية في إقليم الدونباس. واتضح هذا جليا في انقسام البلد والنخبة بين من يؤيد البقاء تحت المظلة الروسية، ومن يريد التوجه غربا وقطع الصلة كليا بحقائق الجغرافيا والتاريخ. ولكن كل هذا الزخم الذي كسبته الحركات المؤيدة لروسيا تراجع في السنوات الماضية، ولاسيما بعد معاينة حجم الفارق بين أولئك الذين يخضعون للحكم الروسي في القرم، أو لحكم الانفصاليين في الدونباس، وبين من بقي تحت السيادة الأوكرانية، في الحريات وفي النمو الاقتصادي والخدمات الاجتماعية وغيرها. أزالت المعايشة سحر روسيا، سحر الأخ الأكبر.

الغزو الروسي أدى إلى زيادة مستوى الشعور القومي. يظهر هذا في الدعوات للتخلي عن اللغة الروسية والاتجاه نحو اللغة الأوكرانية في العائلات ثنائية اللغة، وفي المناطق التي يتكلم فيها الناس اللغة الروسية لغة أم. لقد شرع الناس الذين يتكلمون اللغة الروسية بالتحول نحو اللغة الأوكرانية في رد فعل يهدف إلى إيجاد مسافة لغوية وفكرية عن لغة العدو الروسي. هذا التحول إلى اللغة الأوكرانية التي تفتقر إلى تراث فكري وأدبي يماثل في عراقته التراث المكتوب باللغة الروسية، هو جزء من هذه الرحلة نحو هوية أوكرانية متمايزة عن الهوية الروسية. هذا يعني في المستقبل خسارة كبيرة للغة الروسية وانكماش رقعتها الجغرافية في مناطق كانت تعد ضمن الحيز الجغرافي لها.

وإضافة إلى الذاكرة الجمعية الأوكرانية حول المجاعة (الهولودومور) في الثلاثينيات من القرن المنصرم، والتي أدت إلى موت الملايين من الأوكرانيين، فإن استمرار المجازر التي ترتكبها القوات الروسية، واستهداف المدن، وتدمير البنى التحتية، والتشريد والتهجير، يشكل حلقة أخرى في السردية الأوكرانية نحو تشكيل هوية أوكرانية متمايزة.

الفضاء الأوسع الذي تتشكل فيه الهوية الأوكرانية يشكل قطيعة مع ما تمثله الرؤية الروسية في السلطوية والعزلة والارتداد نحو الماضي والعيش داخل أساطيره

في هذا السياق الهوياتي الصاعد، تتكاثر الفوارق على مستوى الرموز التي تحتل الفضاء العام. تنتشر الآن الوشوم الوطنية: العلم الوطني بلونيه الأزرق والأصفر، الزي الرسمي للجيش الأوكراني، رموز المدن الأوكرانية ولا سيما تلك التي تواجه القوات الروسية. أما أولئك الذين كانوا يصرحون علانية بوقوفهم إلى جانب روسيا حتى قبيل الغزو الأخير فقد اختفوا من المشهد: أصبح تبني وجهة النظر الروسية خيانة.

الفضاء الأوسع الذي تتشكل فيه الهوية الأوكرانية يشكل قطيعة مع ما تمثله الرؤية الروسية في السلطوية والعزلة والارتداد نحو الماضي والعيش داخل أساطيره ورؤاه التي تتحكم بذهنية النخبة الروسية الحالية. بمعنى ما فإن الرؤية الروسية للصراع تبدو أسيرة ماض لا يريد الموت، في حين تسعى الهوية الأوكرانية لوضع نفسها في سياق عالمي يسعى نحو احترام المؤسسات المنتخبة، واحترام حقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة، ويتطلع نحو المستقبل.

على الأرجح، لن يجد أبناؤنا التباسا في هوية أمهات أصدقائهم الأوكرانيات على نحو يماثل الالتباس الذي كنا نعبر عنه بقولنا: لا فرق بين الروس والأوكرانيين. هل ثمة حدث يستطيع أن يمنح هوية معينة لمجموعة ما أكثر من الحرب؟