قبل ثماني سنوات، ساعد القصف الجوي الروسي العشوائي القوات التابعة لحاكم سوريا، بشار الأسد، على إخراج الثوار من حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا. ولقد قام انتصار الأسد في حلب التي تحولت إلى معقل رمزي للثورة السورية، على استراتيجية همجية ألا وهي: "الجوع أو الركوع" والتي قتل بسببها آلاف المدنيين وأجبر كثيرون منهم على الهرب. وهكذا، تحولت تلك المرحلة إلى نقطة تحول في تاريخ الحرب السورية التي أصابها الجمود منذ عام 2020.
ولكن، وخلال عطلة نهاية الأسبوع، استطاع الثوار من خلال هجوم مباغت السيطرة على حلب من جديد، ما جعل نظام الأسد تحت رحمة أكبر تهديد لسيطرته منذ سنين. لكنه رد البارحة عبر دك المناطق التي يسيطر عليها الثوار بقصف جوي، وما حدث بعد ذلك هو أن النزاع الذي جمد في سوريا وتحول إلى "حرب منسية" بما أن الأنظار كلها توجهت نحو غزة وأوكرانيا، أصبح من المستحيل تجاهله بعد اليوم.
بدأ الهجوم الجديد في سوريا يوم الأربعاء الماضي، وذلك عندما أعلنت فصائل ثورية عن سيطرتها وبشكل سريع على قاعدة عسكرية وعلى 15 قرية كانت بيد قوات النظام في شمال غربي محافظة حلب، ويوم الخميس الماضي، أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان من المملكة المتحدة أن الثوار الذين تتزعمهم جماعة هيئة تحرير الشام الجهادية قطعوا الطريق الدولي الرئيسي الذي يصل دمشق بحلب، كما أعلنوا عن سيطرتهم على نحو 100 كيلومتر مربع من الأراضي هناك، ما دفع القوات الروسية الحليفة للأسد إلى شن غارات جوية رداً على ذلك.
وبحلول ليلة الجمعة، خرج مقاتلو هيئة تحرير الشام من حاضنتهم بريف المنطقة الواقعة في شمال غربي سوريا وتقدموا نحو ضواحي حلب، ثم استكملوا السيطرة على المدينة كلها.
يسود مزيج من التفاؤل والتشكيك بين أهالي حلب تجاه ما يجري، بعد أن أذهلهم الانسحاب السريع لقوات النظام، وهذا ما عبرت عنه نسمة بالقول: "فقدنا الأمل بحدوث شيء من هذا القبيل، لكننا نحس الآن بضياع كامل". في تلك الأثناء، أخذ جيش النظام السوري يدفع بتعزيزاته نحو محافظة حماة مع تقدم الثوار نحو مركز المحافظة.
أما التفسيرات التي تشرح سبب هذا التقدم المباغت فتعتمد على نشاط هيئة تحرير الشام خلال السنوات القليلة الماضية في مجال تعزيز قوة جنودها، ناهيك عن الفرصة التي لاحت عند قيام نزاع أكبر في الشرق الأوسط، بيد أن المحلل جيروم دريفون من منظمة مجموعة الأزمات يرى أن نجاح الثوار اعتمد أيضاً على رغبتهم في القتال، وهذا ما دفعه لأن يكتب عبر منصة إكس: "يصر معظم طلاب الحروب على أن أغلب المعارك تُحسم عبر الاستعداد للقتال والرغبة فيه، والرغبة لدى المعارضة تبدو أقوى بكثير الآن".
لماذا قام النزاع من جديد؟
يبدو أن هيئة تحرير الشام أخذت تعد العدة لهذه العملية منذ وقت طويل، إذ هنالك أخبار وتقارير تفيد بأن الهيئة أجرت تدريبات عسكرية كبرى طوال عدة أسابيع خلال الخريف الماضي، في ظل وجود توقعات بشن هجوم كبير. ويرى الخبراء أن قوات الهيئة أصبحت أكثر احترافية بكثير مما كانت عليه خلال فترة وقف إطلاق النار، خاصة بعد تأسيس كلية عسكرية جديدة وسيطرتها الكاملة على محافظة بكاملها تقع ضمن معاقلها كما أصبحت تقنيات جديدة تحت تصرف الهيئة، ومن بينها المسيرات.
أما العامل الحاسم الثاني في تقدم جنود الهيئة فهو الوضع الجيوسياسي على نطاق أوسع، وإدراكهم أن حلفاء الأسد قد تشتتوا واعتراهم ضعف شديد، فقد قضت العمليات الإسرائيلية في لبنان على حزب الله الذي يعتبر أحد أذرع إيران والذي كان أحد العناصر المهمة ضمن قوات الأسد، وعلى الرغم من أن روسيا ما تزال أهم عنصر فاعل في سوريا، لن يتقبل فلاديمير بوتين الهزيمة في المنطقة، بعد أن غاصت القوات الروسية في مستنقع أوكرانيا بشكل واضح.
"فرصة العمر"
في تلك الأثناء، صعّدت إسرائيل من غاراتها الجوية على القوات الإيرانية الموجودة على الأراضي السورية، واستهدفت مستودعات أسلحتها في حلب. يذكر أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب قصف مواقع عسكرية للجيش السوري خلال فترة ولايته الأولى، فضلاً عن سياسة الضغط الموسعة التي انتهجها ضد إيران، وعن ذلك تعلق دارين خليفة الخبيرة بالشأن السوري لدى منظمة مجموعة الأزمات بأن كل ذلك يعتبر فرصة لا تأتي بالعمر إلا مرة واحدة بالنسبة للثوار، وأضافت: "إذ متى سنحت الفرصة قبل ذلك حتى يقف العالم بأسره والولايات المتحدة وإسرائيل والجميع ضد خصومهم؟!"
لعل ما دفع الثوار أيضاً لشن هجومهم هو الغارات الجوية التي شنتها روسيا والنظام السوري على مناطق الثوار والتي أنذرتهم بشن حملة عسكرية أوسع، عندئذ لاحت فرصة ضئيلة أمام تلك العملية بحسب ما يراه المحلل هايد هايد الذي يقول: "لو انتظرت قوات الثوار لفترة طويلة فإن النظام سيتمكن من تعزيز خطوط الجبهة كما لن تبقى قوات حزب الله مشغولة بحربها في لبنان"، وهنا تجدر الإشارة إلى أن العملية بدأت في اليوم نفسه الذي دخلت فيه الهدنة بلبنان حيز التنفيذ.
من هي هيئة تحرير الشام؟
خلال فترة من الفترات، شارك مؤسس الهيئة، أي أبو محمد الجولاني، في الثورة العراقية ضد الولايات المتحدة وكان عضواً في تنظيمٍ تحوَّلَ في نهاية الأمر إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ومن الشكل الذي اتخذته تلك الجماعة في السابق تحت مسمى جبهة النصرة، أعلنت هيئة تحرير الشام عن تحالفها مع تنظيم القاعدة، لتعود وتعلن عن فك ارتباطها بهذا التنظيم في عام 2016، ولتسمي نفسها بهيئة تحرير الشام، وقد صنفت الولايات المتحدة الهيئة كتنظيم إرهابي، غير أن الهيئة تخلت عن هدفها المتمثل بإقامة دولة إسلامية في سوريا، ولهذا اعتُبرت أقل تطرفاً من تنظيم الدولة.
أصبحت الهيئة أقوى فصيل ثوري في سوريا وسيطرت على إدلب التي يعيش فيها نحو أربعة ملايين نسمة، وأصبح تعداد جنود الهيئة يصل إلى 30 ألف عسكري، وفي عام 2021 ذكر كل من جيروم دريفون وباتريك هايني في ورقة بحثية لصالح معهد الجامعة الأوروبية أن هيئة تحرير الشام عززت سلطاتها في إدلب على حساب فصائل تنظيم الدولة والقاعدة الأشد تطرفاً منها، وأضافا بأن سيطرة هيئة تحرير الشام لا تعتبر حاضنة للجهاد العالمي.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه الهيئة إحدى الجماعات التي عملت على: "مصادرة الثورة" من الشعب السوري، فقد قيد الدولة الراعية لهذا التنظيم، أي تركيا، العمليات التي تقوم بها الهيئة، ومع ذلك فهنالك أمور مقلقة وخطيرة على مستوى حقوق الإنسان في المنطقة التي تسيطر عليها الهيئة، وتشمل تلك الأمور الإعدامات التي نفذت بحق من اتهمتهم بالانتماء لجماعات وفصائل منافسة لها، فضلاً عن الإعدامات التي نفذتها بحق من اتهم بالكفر أو الزنا.
كيف سيرد الأسد؟
في الوقت الذي حدثَ فيه تقدُّمُ الهيئة بسرعة كبيرة، ثمة أسباب وجيهة كثيرة تدفعنا للتفكير بالطريقة التي سيرد بها نظام الأسد وحلفاؤه على ذلك، حتى في ظل القيود المفروضة على المجالات العسكرية الأخرى، إذ يرى إبراهيم العاصي وهو عضو لدى معهد الشرق الأوسط بواشنطن أن: "المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، فقد يعتمد الأسد استراتيجية قديمة نجحت معه في السابق، ألا وهي الانسحاب، ثم إعادة تنظيم الصفوف، ومن ثم تعزيزها، ليشن بعد ذلك هجوماً مضاداً، لذا فإن الامتحان المهم بالنسبة لثورة الثوار هو أن يعرفوا متى عليهم أن يتوقفوا".
مع تعزيز النظام لقواته في حماة، وفي ظل القصف الجوي الروسي الذي من المرجح له أن يزداد حدة، لا بد أن تخضع قوة هيئة تحرير الشام لامتحان قاسٍ خلال الأيام والأسابيع المقبلة، كما من المرجح للمفاوضات بين تركيا وروسيا أن تلعب دوراً مهماً في الوصول إلى نتيجة نهائية.
يخشى محللون كثر من استعانة الأسد بالسلاح الكيماوي، تماماً كما فعل في أشد الأيام حلكة من الحرب السورية، فكان لذلك تأثير مدمر، لأنه في حال حصل ذلك، فإن أي نجاح قد ينتزعه الثوار سيحمل بين طياته فاتورة مروعة.
المصدر: The Guardian