العنصرية.. المحكي والمسكوت عنه في الحرب الروسية على أوكرانيا

2022.06.20 | 06:06 دمشق

wkranya_ljw.jpg
+A
حجم الخط
-A

لننطلق في هذا المقال من مبادئ بسيطة قابلة للتعميم، مثل كون البشر جميعاً متساوين بالفطرة الإنسانية باعتبارهم بشراً، وأنّ الحضارة الإنسانية وصلت إلى حدّ قوننة هذه المساواة وشرعنتها من خلال العهود والمواثيق الدولية، وأنّ ممارسة هذه المساواة فعلياً تتناسب طرداً مع تقدّم مستويات الديمقراطية وسيادة القانون في الدول والمجتمعات، وأنّه كذلك ما من دولة كاملة أو مجتمع بشري مثالي يخلو من النواقص أو العيوب، وأنّه ما من شعب قد استطاع التخلّص من العنصرية أو التمييز على أسس مختلفة بشكل كامل. وكل هذه المقدمات نحتاج إليها لمقاربة الخطابين الإعلامي والسياسي الظاهر والخفي في أوروبا من جرّاء الحرب الروسية على أوكرانيا.

مع صدمة الحرب الأولى، ومع مشاهد النازحين واللاجئين الأوكرانيين، أفلتت من عددٍ من المراسلين الصحفيين عبارات تنمّ عن قدرٍ كبيرٍ من العنصرية، طبعاً وفق المعايير التي ذكرناها أعلاه، ووفق القيم السائدة في مجتمعاتهم ذاتها، أو المحمية بالقانون على الأقل. مثالٌ على ذلك ما تلفّظ به مراسل محطة (CBS NEWS) الإخبارية في أثناء تغطيته الأحداث، حيث قال: "هذا ليس مكاناً مثل العراق أو أفغانستان، مع كل الاحترام، حيث تشهدان نزاعات وحروباً منذ عقود، هذا مكانٌ (يقصد أوكرانيا) حضاريٌ نسبياً وأوروبي إلى حدّ ما." ومثال آخر هو ما قالته مراسلة محطة (NBC NEWS NOW) من بولندا عندما قالت على الهواء مباشرة أيضاً: " بصراحة هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء لاجئون من أوكرانيا المجاورة، هذا بصراحة تامّة جزء منهم، هؤلاء مسيحيون، إنهم بيض، إنهم مشابهون جداً للأشخاص الذين يعيشون في بولندا." وكذلك ما قاله مراسل قناة (BBC) ببث مباشر من كييف: "اعذروني، إنّه أمرٌ مؤثّرٌ بالنسبة لي، لأنني أرى أوروبيين ذوي شعر أشقر وعيون زرقاء يقتلون، الأطفال يقتلون كل يومٍ بصواريخ بوتين وطائراته الهليكوبتر."

كذلك صرّح رئيس وزراء بلغاريا كيريل بيتكوف حول الموضوع قائلاً: "اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين الذين اعتدنا رؤيتهم، لذلك سنرحّب بهم، هؤلاء أوروبيون، أذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضياً غامضاً، كأن يكونوا إرهابيين." وهذا الموقف لم يُخفه كثيرٌ من زعماء اليمين واليمين المتطرف في أكثر من مناسبة وفي أكثر من بلد، وقد ترافق ذلك مع إجراءات عملية بدأت تتخذها بعض الدول المصنّفة في المراتب العليا وفق مؤشرات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والرفاه الاقتصادي والاجتماعي. ففي بلد مثل السويد بدأت القوانين تتغيّر باتجاه التشديد على شروط قبول طلبات اللجوء ومن بعدها الحصول على الجنسية. وفي بلد آخر مثل الدنمارك بدأت أحزاب اليمين تضغط من أجل إعادة بعض اللاجئين إلى أوطانهم رغم أنها لا تزال مصنّفة عالمياً بؤراً خطيرة للصراع. وإذا ذهبنا إلى اليونان أو صربيا أو بولندا لوجدنا ممارسات عنيفة ضد المهاجرين، مثل الضرب والاحتجاز الطويل والإجبار على الترحيل خلافاً لأحكام القانون الدولي. وقد ترافق ذلك كلّه مع نشاط واضح لأغلب شرائح المجتمعات الأوروبية على وسائل الإعلام وعبر وسائط التواصل الاجتماعي، وهذا شيء طبيعي مع اقتراب الخطر منهم، على عكس تفاعلهم مع الحروب التي كانت تحصل بعيدا عنهم في سوريا والعراق واليمن وميانمار أو غيرها.

جاءت القواعد القانونية التي تنظم حق اللجوء، والواردة في الاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين والتي أقرتها الأمم المتحدة عام 1951، لتعالج أوضاع اللاجئين الأوروبيين الذين فروا من بلدانهم إثر الحرب العالمية الثانية

لقد جاءت القواعد القانونية التي تنظم حق اللجوء، والواردة في الاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين والتي أقرتها الأمم المتحدة عام 1951، لتعالج أوضاع اللاجئين الأوروبيين الذين فروا من بلدانهم إثر الحرب العالمية الثانية. أي أنّ الأوروبيين هم أول من عالج هذا الأمر على نحوٍ إنساني واسع المدى ونظّمه بشكل قواعد قانونية ملزمة. طبعاً تم تعديل هذه الاتفاقيات في العام 1967 لتصبح شاملة كل اللاجئين بغض النظر عن جنسيتهم بموجب بروتوكول خاص صدر أيضاً عن الأمم المتحدة. وهذا يعني من حيث النتيجة أنّ الأوروبيين هم روّاد هذا الطريق القانوني في حماية حقوق الإنسان ولا يمكن المزاودة عليهم في ذلك. لكن لا يمنع هذا من مناقشة النزعات العنصرية والمزاج التمييزي الذي بدأ يظهر ويشتدّ عوده في أوروبا والعالم.

الحقيقة أنّ الأوروبيين بشر مثل غيرهم، وبالتالي فهم أكثر التصاقاً بالقضايا القريبة التي تخصّهم، لكن يتم تسليط الضوء على ردود أفعالهم بالتحديد بسبب ما ترفعه حكوماتهم على الدوام من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ومن الاستخدام السياسي المفرط أحياناً لهذه القضايا، فهل ننسى شعارات نشر الديمقراطية التي رفعتها الإدارة الأميركية كتبرير لاحتلال العراق؟

ما يلفتُ النظر أنّ الصحفيين والسياسيين، الذين يُفترض أنهم من الفئات المثقفة صاحبة التجارب والخبرات والمنفتحة على الثقافات الأخرى، هم من تصدّروا المشهد الآن في رفع الصوت جهاراً بهذا التمييز الصارخ. والحقيقة أنّ هذا الأمر وإن بدا عرضاً لا يمثل سوى أصحابه، إلا أنّه في العمق يشكل سؤالاً دائم الحضور رغم قلّة طرحه علناً. إنّه في الجوهر سؤال الجدوى عن قيمة المساواة بين البشر، وهل حقيقة هناك تساوٍ بينهم، أم هو مجرّد وهم صنعه الإنسان ليُقنع نفسه بالقيم التي يجب أن تكون، لا بالقيم الموجودة فعلاً!

يجب ألا يغربنّ عن البال عند الحديث عن القيم أنّها تعكس الواقع، فالدول الأكثر تطوراً من حيث الصناعة والتكنولوجيا والتقدّم العلمي، بحاجة لتوازن معيّن في المنظومة القيمية الأخلاقية والقانونية، توازنٍ ما يجسر الهوّة بين مصالح الطبقات العليا المتحكمة في كل شيء تقريباً، وبين مصالح الطبقات الأخرى المنتجة الحقيقية لكل العلوم والمعارف والتي تمتلك حقيقة القدرات والمهارات والخبرات، لكنها تعمل أبداً لصالح مالكي الشركات العملاقة صاحبة رؤوس الأموال العابرة للقارات. تسعى رؤوس الأموال لتحقيق الربح دائماً بغضّ النظر عن النتائج ومهما كانت، وهذا ما يجعلنا نرى الخروق الدائمة لحقوق البشر وأهمها الحق بالمساواة. ولأنّ السياسيين والصحافيين والمثقفين الغربيين يدورون في فلك هذه الثقافة الرأسمالية عموماً، فإنّهم عاجزون عن انتقاد جذر التمييز، لأنّه يصيبهم هم أنفسهم، فما معنى أن يتساوى إيلون ماسك وبيل غيتس وجيف بيزوس أمام القانون مع أي مواطن أميركي يعمل في إحدى شركاتهم، كأن يكون لكل منهم نفس الحقوق الدستورية مثلاً؟ أليس في هذا الطرح المجرّد استخفافٌ هائلٌ بالعقل والمنطق؟

من هنا يمكن رؤية هذه الموجة من العنصرية الرائجة الآن، والتي لا يمكن لأصحابها تصريفها باتجاه الأشخاص الأكثر ثراءً ونفوذاً وتأثيراً في بلدانهم، فيعكسونها على الفئات الأضعف، على الآخرين المختلفين عنهم، لأنّ الاختلاف واضح هنا في لون البشرة والعيون والشعر. هذا بعضٌ من المحكي عنه ونزرٌ يسيرٌ من المسكوت عنه في قضيّة اللاجئين كعرضٍ للحرب الروسية على أوكرانيا.