العملية العسكرية التركية وبعض خلفياتها

2019.10.27 | 16:42 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

نحن نرى ما يدور على مسرح الأحداث، فنقوم بتحليلها وفقاً للمعلومات المتوفرة للعموم. أما ما يدور خلف الكواليس، فلا يعلم به إلا أصحاب الشأن المباشرون، يسربون منها ما يشاؤون، ويحتفظون بما تبقى طي الكتمان. ما نسميه بـ"استباق الأحداث" هو قراءة ما يجري بمزيج من الوقائع والتسريبات والتخمينات. لن تقوم هذه المقالة باستباق الأحداث من خلال إطلاق تخمينات، بل ستسعى إلى الربط بين مسارين أديا، في النهاية، إلى دخول القوات التركية والميليشيات التابعة لها إلى الأراضي الواقعة بين تل أبيض ورأس العين، وحدوث توافق أميركي – تركي حول إطار العملية من جهة، ومذكرة تفاهم روسية – تركية حول الترتيبات الأمنية بشأن المنطقة وجوارها من جهة ثانية. 

وقائع المسارين يعرفها كل الناس، لكن انتشارها الزمني هو ما قد يخفي الترابط بينهما. في المسار الأول نرى نوعاً من "الحوار" غير التقليدي بين الحكومة التركية (أو الاستخبارات التركية بتعليمات من الحكومة) وعبد الله أوجالان، تمت فصوله بمناسبة الانتخابات المحلية، بين أوائل أيار و23 حزيران من العام الحالي. توقيت ظهور أوجالان أمام الرأي العام ارتبط بالانتخابات المحلية، بصورة مباشرة، بل إنه حاول، في آخر رسالة له قبيل الانتخابات، أن يوجه الناخب الكردي في إسطنبول باتجاه الحياد، أي عدم دعم مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، وهو ما اعتبر دعماً غير مباشر لمرشح السلطة بن علي يلدرم. لكن رسائله المتتالية، في تلك الفترة، تناولت أيضاً الموضوع السوري بصورة مباشرة، وإن كان ذلك بلغة مرتبكة تفتقر إلى الوضوح، أعني موضوع "شرقي الفرات" تحديداً الذي كان، منذ قرار ترامب بالانسحاب من سوريا في أواخر كانون الأول 2018، موضوع تجاذبات بين أنقرة وواشنطن ومحور نظام الكيماوي وحلفائه.

كان واضحاً، في موضوع الانتخابات البلدية على الأقل، أن ثمة اختلافاً سياسياً في بنية الحركة الكردية، بين أوجالان وحزب الشعوب الديموقراطي وقيادة "العمال الكردستاني" في قنديل. وهو ما دفع الرئيس التركي إلى الحديث عما أسماه بـ"صراع على السلطة" في البنية المذكورة. من المحتمل أن موضوع "روجافا" كان موضوعاً خلافياً أيضاً بدلالة شعور أوجالان بالحاجة إلى تحديد موقفه منه. وكان هذا الموقف يتحدث عن "ضرورة الابتعاد عن الصدام، وحل المشكلات عن طريق الحوار" من غير أن يكون واضحاً في تحديد أطراف الصراع أو الحوار المفترضين. هل هما "قسد" ونظام دمشق الكيماوي، أم قسد وتركيا، أم كلاهما معاً؟ عبارة أوجالان غامضة بهذا الخصوص، لكن التتمة واضحة جداً: "ضرورة أخذ الهواجس الأمنية التركية بعين الاعتبار"!

لم يقتصر "الحوار" غير التقليدي على أوجالان، بل كان ثمة محاور آخر مع أنقرة هو قيادة قسد، بدلالة تصريحات لقائد تلك القوات، مظلوم عبدي، تعود إلى الفترة نفسها، قال فيها إن حواراً غير مباشر، بوساطة أميركية، يدور بين قسد وأنقرة. نتذكر، بهذا الصدد، زيارات عدة قام بها المبعوث الأميركي إلى سوريا، جيمس جفري، إلى أنقرة، في ربيع وصيف العام الحالي، بموازاة لقاءاته مع قيادة قسد. لا نعرف ما الذي نتج عن تلك "الدبلوماسية المكوكية" التي ينسب ابتكارها إلى وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر. لكن الأقرب إلى المنطق هو أنها أنتجت "اتفاق أنقرة" في أوائل آب 2019، بين الأتراك والأميركيين، بشأن إنشاء نطاق خالٍ من قوات قسد بعمق يتراوح بين 5 – 14 كلم، بضمانة دوريات مشتركة أميركية – تركية، برية وجوية، تقاد من غرفة عمليات مشتركة تم إنشاؤها في مدينة أورفة.

لم تترك قيادة قنديل لحزب العمال الكردستاني الساحة لأوجالان وعبدي وحدهما

ولم تترك قيادة قنديل لحزب العمال الكردستاني الساحة لأوجالان وعبدي وحدهما، فنشر القيادي مراد قرة يلان مقالة في صحيفة نيويورك تايمز، في شهر أيار، قال فيها إنه أوان إرساء السلام في تركيا بين الحكومة وكردها. كان ثمة تسريبات، في ذلك الزمن، عن مفاوضات سرية جارية بين قيادة "العمال الكردستاني" والمخابرات التركية، على غرار مفاوضات مماثلة جرت في العام 2013 في أوسلو.

 

ما الذي يمكن استنتاجه من كل هذه الوقائع؟ 

يبدو أن الأميركيين كانوا يضغطون على كل من تركيا و"العمال الكردستاني" لإطلاق مفاوضات بينهما من شأنها حل الصراع الأساسي الذي انعكس على شمال سوريا في صورة خلاف أميركي – تركي حول دعم واشنطن لقسد، كان المأمول أميركياً أن يحل هذا الخلاف من خلال حل الصراع الأساسي داخل تركيا. لا نعرف أين وصلت الأمور في مشروع طموح إلى هذ الحد. لكن الظاهر اليوم هو تجاوز تركيا لاتفاق أنقرة، بعد حصولها على ضوء أخضر من ترامب لغزو منطقة "نبع السلام". الأمر الذي نستصعب فهمه هو اللغة الأميركية المزدوجة تجاه كل من تركيا وكرد سوريا. وإذا كان مفهوماً الاختلاف بين ترامب من جهة والكونغرس من جهة أخرى، فغير المفهوم هو لغة ترامب نفسه التي تمتدح أردوغان مرة، وتهدده مرة، وتسيء إليه مرة ثالثة. كما أنه، بالمقابل، يمتدح الكرد في تغريدة، ليهاجمهم في تغريدة ثانية بدعوى أنهم لم يشاركوا في إنزال النورماندي! لا يكفي إرجاع ذلك إلى غرابة أطوار هذا الرئيس الإشكالي، بل من المحتمل أن هذه التذبذبات في قراراته وتصريحاته تمهد لقرارات مبيتة لا يمكننا الآن التكهن بها.

أما بين أنقرة و"حزب الشعوب الديموقراطي" فالعلاقة عدائية على طول الخط، بخلاف علاقة أنقرة بأوجالان. فالحكومة مستمرة بحل بلديات الحزب الكردي وتعيين حكام الولايات بالوكالة بدلاً منهم، إضافة إلى اعتقال كوادر الحزب ونوابه ورؤساء بلدياته. لا شيء من مسالك الحكومة تجاه الحزب الكردي المتمتع بتمثيل اجتماعي واسع يشير إلى عودة قريبة إلى عملية السلام التي نادى بها مراد قرة يلان أو أوجالان. ومن شأن إجراء تغيير ديموغرافي متوقع في منطقة سيطرة الجيش التركي، بين تل أبيض ورأس العين، بدلالة نوايا أنقرة المعلنة بخصوص توطين لاجئين سوريين هناك، أن يخلق شرخاً كبيراً يصعب ترميمه بين تركيا وكردها في الداخل، من جهة، وكرد المنطقة وعربها في سوريا من جهة ثانية. لذلك طرحت ألمانيا مشروعاً مختلفاً للمنطقة الآمنة، بإدارة دولية، لحل مشكلة اللاجئين مع ضمان عدم حدوث تغيير ديموغرافي. وهو ما لم يلق قبول أنقرة. أعني أن مشروع التغيير الديموغرافي الذي يخشاه الكرد، ربما سيلاقي مقاومة دولية كبيرة تمنع حدوثه.

لدينا، إذن، مسار أول أوحى بمشروع حل سياسي للمشكلة الكردية في تركيا، لا بد أن ينعكس على شمال سوريا، ومسار ثان تمثل بدق طبول الحرب وغزو الأراضي السورية من جهة، ومواصلة التضييق على كرد تركيا ممثلين في حزب الشعوب الديموقراطي. هل هما مساران متعارضان، تغلب الثاني بينهما على الأول، أم هناك تكامل بين المسارين سنرى، في الأشهر المقبلة نتائجه؟

النقطة الأخيرة التي تستحق الإشارة إليها هي ما يمكن وصفه بصعود نجم مظلوم عبدي في هذه الآونة. فهو يتلقى مكالمة هاتفية من ترامب مع دعوة لزيارة البيت الأبيض، ويتحاور مع وزير الدفاع الروسي وقائد أركانه. "شو عدا ما بدا" في وقت بات فيه مشروع الإدارة الذاتية في خبر كان؟