العلاّمة الدكتور محمد فتحي الدريني: في أرجوحة المحافظة والتجديد

2020.02.06 | 23:01 دمشق

5456.jpg
+A
حجم الخط
-A

يذكرني بيت لشاعر من شعراء القرن السادس الهجري يدعى الغزي يقول فيه:

لا تعجبن لمن يهوي ويصعد في ....... دنياه فالخلق في أرجوحة القدر

بأستاذنا العلاّمة الدكتور محمد فتحي الدريني (1923 ــ 2013)، فقد كنت أرى دائماً لدى دراستي وتتلمذي على كتبه أنّ هذا البيت ينطبق عليه، فهو يصعد تارةً ويهوي أخرى في أرجوحة التجديد والمحافظة، من دون أن تتغلب إحدى النزعتين لديه على الأخرى، ولعل هذا ما حماه من أن يُسلق بألسنة مناوئي التجديد أو أن يُصلى بشتائمهم ولعناتهم.

يشاكل العلاّمة الدكتور الشيخ محمد فتحي الدريني الأديب زكي مبارك الذي حاز عدة شهادات دكتوراة في الآداب والعلوم الإنسانية حتى كان يُقال عنه: جاء الدكاترة أو ذهب بدلاً من جاء الدكتور أو ذهب، وكذلك فإنّ أستاذنا الدكتور الدريني حاز شهادات عديدة في الشريعة والآداب والسياسة والقضاء وعلم النفس، وكان حريصاً على إثبات هذه الشهادات على أغلفة كتبه التي كان يطبعها في بداية مشواره العلمي والتعليمي.

الدريني المجدد:

ينطلق التجديد في الفكر الإسلامي لديه من مناهج الاجتهاد، فنراه يعيد صياغة علم أصول الفقه في كتابه (المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع)، ويحرص على إظهار التوجّه الذي تملّكه في كتبه وبحوثه كلها، فجعله مميّزاً ومختلفاً، وهذا التوجّه هو تحديد البنية الذاتية للتشريع، والبحث عن القيمة المحورية التي يدور عليها، وهنا نلاحظ ملمحاً تجديدياً في تناوله لعلم أصول الفقه، فالاستنباط الشرعي لديه لم يعد يقتصر على خصائص اللغة وقواعد الشرع فحسب، ولكنه أدخل في صميم عملية الاستنباط مراعاة روح الشرع العامة، ونصّ على ذلك في تعريفه للاجتهاد بالرأي، ولا شك في أنّ هذه الإضافة الوجيزة تفتح للفقه الإسلامي آفاقاً رحيبة وأمداء واسعة، ولذلك لَقَّبه طلاب العلم الشرعي بـ (شاطبي العصر)، نسبة إلى الإمام أبي إسحاق الشاطبي أحد أهم مستنبطي (المقاصد الشرعية) التي هي الغاية من التشريع كله، لأنّهم أدركوا أنّ رسالة الدكتور الدريني الأساسية في بحوثه ودراساته وكتبه هي استثمار فكرة (المقاصد الشرعية)، وسواءً في تنظيره لمناهج الاجتهاد، أو في صياغته الفقه الإسلامي صياغةً تحاكي النظريات الحقوقية الغربية في مبانيها وتسمياتها، وكانت مقرراته الفقهية التي درسناها في كلية الشريعة بجامعة دمشق هي الأهم والأغنى، وعلى سبيل المثال درسنا في كتابه (النظريات الفقهية):

ــ نظرية الحق والتعسف في استعماله.

ــ نظرية الظروف الطارئة.

ــ نظرية المسؤولية التقصيرية والعقدية.

 ــ نظرية العقد وأثره.

ــ نظرية الباعث في العقود.

لم يكن تأصيل هذه النظريات مجتمعةً من عمل فقيه واحد، ولكن نهض به رعيل كامل من الفقهاء والأكاديميين على مدار التسعين سنة الفائتة، فكان كلّ فقيه يبذل وسعه في تأصيل نظرية من هذه النظريات، ثم يتداولها وينقدها ويغنيها الفقهاء الباحثون

الدكتور الدريني فكان رائد صياغة نظرية (التعسف في استعمال الحق) صياغةً فقهية إسلامية، وكانت هذه هي رسالته للدكتوراة

من أساتذته وزملائه ومجايليه، ويأتي على رأس هؤلاء عميد الفقه الإسلامي الشيخ مصطفى الزرقا، الذي استوعب جميع هذه النظريات في موسوعته (المدخل الفقهي العام) التي صدرت أجزاؤها تحت عنوان (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد).

أما الدكتور الدريني فكان رائد صياغة نظرية (التعسف في استعمال الحق) صياغةً فقهية إسلامية، وكانت هذه هي رسالته للدكتوراة، التي صدرت في جزأين: الأول بعنوان: (الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده) في 290 صفحة، والثاني بعنوان: (نظرية التعسف في استعمال الحق) في قرابة 390 صفحة، وقد توجّه للنظرية الحقوقية الغربية المسماة بالفرنسية (De L' abus des droits)، فدرسها وأحاط بها، ثم بيّن أنّ هذه النظرية "عريقة في التشريع الإسلامي، وُجدت مذ كان، لاتصالها بأصل فكرة الحق والمصلحة والعدل فيه"، ويحدثنا عن نفسه أنه استغرق ست سنوات من التفرغ لإنجازها، بعد أن غاص في تراث أئمة الفقه ولا سيما الشاطبي والعز ابن عبد السلام وابن قيّم الجوزية وسواهم لاستخراجها وإحكامها، على الرغم من أنّه لم يرد على لسان أيٍّ منهم أو من الأصوليين والفقهاء الآخرين تعبير (التعسف في استعمال الحق)، ولكن ورد في كلامهم (الاستعمال المذموم)، و(المضارّة في الحقوق) للتعبير عن المفهوم نفسه.

وهنا نرى أنه يتساوى في آلية المقاربات الإسلامية/ الغربية رافعو راية الإصلاح والتنوير والتجديد والصادفون عنها. فأما الذين يعلنون التجديد ويعمدون اليوم إلى مقاربة التراث الإسلامي من مفاهيم الحداثة ونظرياتها فتنقسم الأمة حولهم ما بين مؤيد ومعارض، وأما الصادفون المحافظون المتيقظون الحذرون فيتسالم المعارضون عليهم، ويسلّمون لهم، ويشكرون صنيعهم في مقاربة الفقه الإسلامي من النظريات الحقوقية الغربية، ويعدونه إنجازاً وفتحاً وألمعية.

يدلّل الدكتور الدريني على أنّ تطبيق نظرية (التعسف في استعمال الحق) صمام أمان من:

1 ــ سوء نتائج الاستعمال والممارسة للحقوق.

2 ــ سوء النتائج المترتبة على الإمعان في الجري وراء تطبيق القواعد والأحكام بقطع النظر عن الظروف الملابسة.

ويعني ذلك أنّه إذا أفضت ممارسة الحق، أو تطبيق الحكم، في ظرف من الظروف، إلى مفسدة تربو على ما وُضع له من مصلحة، مُنع التسبب في ذلك، ولو كان القصد حسناً، درءاً للتعسّف، لأنّ العبرة للمآلات، وعبارة الإمام الشاطبي الشهيرة التي يكثر الدكتور الدريني من الاستشهاد بها تقول: "أصل النظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصودٌ شرعاً". ومن هنا يُعرّف الدريني التعسّف، بعد مناقشات مستفيضة فقهية وقانونية تُفرِّق بينه وبين (الخطأ) و(التعدي) بأنهّ: "مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه شرعاً بحسب الأصل"، وتنبع أهمية هذا الرسم والتحديد، من الآفاق التي يمكن أن ترقى إليها النظرية، حيث يوسّعها الدكتور الدريني لتصل إلى الحديث عن (التعسّف في التشريع)، و(التعسّف في الاجتهاد)، ويرى الدريني أن الأصوليين قد لحظوا هذه الفكرة

من القواعد الأصولية المقررّة أن لا مجال للاجتهاد في النص القطعي المفسَّر، لأنّ النص الصريح القاطع يعبّر عن إرادة المشرّع الحقيقية

فعملوا على معالجتها، وقرّروا أنّ الجري وراء ظواهر النصوص، أو العمل بمقتضى القياس يؤدي أحياناً إلى ما يناقض مقصد الشرع، الذي هو دائماً العدل والمصلحة، ولذلك يجب، في هذه الحالة، العدول عن النص أو القياس، وعدم الأخذ بهما، فإذا كان الأمر محرّماً فإنه يصبح حلالاً وفق مبدأ (الاستحسان)، أما إذا كان حلالاً فإنه يغدو حراماً وفق مبدأ (سد الذرائع).

 

الدريني واختراق النص:

هل لنا أن نجتهد في مورد النص القطعي المفسَّر الذي ينافي الاحتمالات؟

يعرض الدريني الرأي السائد فيقول: "من القواعد الأصولية المقررّة أن لا مجال للاجتهاد في النص القطعي المفسَّر، لأنّ النص الصريح القاطع يعبّر عن إرادة المشرّع الحقيقية، وحينئذ يغدو الاجتهاد بالرأي، والإتيان باحتمال آخر خروجاً على النص نفسه، لا تفسيراً له، وتغييراً لإرادة الشارع لا تبييناً لها، لأنها واضحة بيّنة"، وأمام هذا العرض المصوغ بطريقة لا تدع للمرء سوى أن يقول: لا. لا اجتهاد في مورد النص، يخالف الدريني التوقع ويقرر تالياً بأنّ لنا أن نجتهد في مورد النص، لأنَّ "الأصوليين، مع ذلك، يرون أنّه عند تطبيق الأصل على ما يندرج تحته من وقائع قد يحتف بها ظروف مؤثرة في تشكيل علّة الحكم، بحيث يفضي تطبيقه، في ظل تلك الظروف، على جزئية من جزئياته، إلى نتائج ضرورية لا تتوافق مع الأصل العام الذي قام عليه التشريع كله، ولذا يُرجّح المجتهد:

1 ــ إمّا استثناء الواقعة من عموم الزمن، فيتوقف تطبيق الحكم فترة يتحدد مداها بزوال الظرف المؤثر.

2 ــ وإما باستثناء الجزئية من عموم أصلها ليُطبَّق عليها أصل آخر هو أجدر بتحقيق المصلحة والعدل، وأقوى في درء سوء النتائج، وهو مظهرٌ من مظاهر درء التعسف في المآل".

ويناقش الدريني أولئك الذين يحصرون الاجتهاد بالرأي فيما لا نصّ فيه، بناءً على حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً وسأله: بمَ تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فلا يسلّم الدكتور الدريني لهم هذا الفهم: "وإذا كان الرسول الكريم قد حثّ على الاجتهاد بالرأي حيث لا نصَّ فليس معنى ذلك ولا من مقتضاه ألا يكون الاجتهاد بالرأي في النصّ نفسه تفهّماً واستنباطاً وتطبيقاً".

إذن: فمقولة: "لا اجتهاد في مورد النص" غير مسلّم بها، بل إن الاجتهاد هو في مورد النص، سواء أكان المقصود من النص القرآن أو السنة، أو كان المقصود به المعنى الأصولي الذي يشير إلى الدلالة الواضحة البيّنة التي تفيد معنىً قطعياً، إذ لا يُحصر الاجتهاد في الاستنباط فقط، وإنما هنالك ما يوازيه في التطبيق أيضاً، وهو لا يقل عنه خطورة وأهمية.

والآن نتساءل: هل كان الدكتور الدريني في تناوله للمسائل الفقهية ومعالجته للأحكام الشرعية على مستوى هذا الطرح، يجري في مضماره، ويرقى رقيّه؟

الجواب: في مقالنا القادم بعونه تعالى.