العلاقات السورية الإيرانية.. هل يمكن إخراج إيران من سوريا؟

2020.05.24 | 00:02 دمشق

d0rdyngwwaar82y-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

يكاد التحدث في مقال عن العلاقات السورية الإيرانية أن يكون صعباً؛ لأن هذه العلاقة التي ما تزال حاضرة في مجمل أحداث المنطقة، والتي تشكل اليوم أحد التحديات الكبيرة أمام أطراف كثيرة، ما تزال تشكل التحدي الأهم فيما جرّته من مآسٍ على الشعب السوري، وفيما سوف تجره لاحقاً. 

لقد أسس هذه العلاقة حافظ الأسد، هو الذي كان بحاجة ماسة لها لأسباب عديدة، منها: استخدامها ورقة ابتزاز في العلاقة مع أطراف أخرى، لا سيما في العلاقة مع دول الخليج العربي، واستخدامها أيضاً ورقة قوة في وجه تركيا، وهو الذي يدرك جيداً عمق الصراع التاريخي بين تركيا وإيران، وهو الذي كان على علاقة سيئة بتركيا حينها، يضاف إلى ذلك أيضاً رغبة حافظ الأسد الدفينة غير المعلنة في إضعاف "صدام حسين" خصمه اللدود في العراق.

أما ما هو مؤكد، فهو أن هذه الأسباب ليست هي الوحيدة التي دفعت حافظ الأسد إلى إقامة علاقة راسخة مع النظام الإيراني، لكنها كانت كافية لربط النظامين برباط لم تستطع ضغوط كثيرة أن تفكه.

كانت الذريعة التي تذرع بها حافظ الأسد للرد على منتقديه العرب حول علاقته بإيران، تتلخص بموقف إيران "المناصر" بشدة للقضية الفلسطينية

لقد كانت الذريعة التي تذرع بها حافظ الأسد للرد على منتقديه العرب حول علاقته بإيران، تتلخص بموقف إيران "المناصر" بشدة للقضية الفلسطينية، التي أتقن مع إيران المتاجرة بها، وهما النظامان اللذان لا يزالان حتى اللحظة يتاجران بها.

كان حافظ الأسد يعي جيداً حاجة إيران له؛ لذلك فقد حافَظَ على ندية العلاقة، بل لقد استغل هذه الحاجة في اتخاذ بعض المواقف التي لا تتفق مع إيران، متيقناً أنها لن تدفع إلى تأزيم هذه العلاقة، فانضم إلى التحالف الدولي ضد العراق 1991، وبدأ بمفاوضات سلام مع إسرائيل، وأوقف محاولة التشيع التي عملت إيران على تعميقها داخل المجتمع السوري.

لكن موت حافظ الأسد جعل إيران تنتقل من مرحلة  الحرص على استمرار العلاقة مهما تباينت المواقف، إلى مرحلة الهيمنة عليها، مستغلة في ذلك نقاط قوة كثيرة كانت إيران قد امتلكتها، أهمها: أنها استطاعت خلال سنوات العلاقة الطويلة أن تستقطب عدداً من رجالات النظام السوري الذين لم يكونوا قادرين على التحرك بفعالية أثناء وجوده، أضف إلى ذلك تطور المشروع العسكري الإيراني، وإمكاناتها الاقتصادية، وبروزها كدولة إقليمية منخرطة في كل مشاكل المنطقة، والأهم من ذلك نفوذها القوي في بلدين مجاورين لسوريا، هما لبنان، والعراق.

خلال عقدين كاملين من العلاقات السورية الإيرانية، وما يقاربهما من علاقات سورية مع حزب الله التي تتوجت بالانتصار الذي مثله انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. وهي علاقات قد ترسخت في حلف ثلاثي قوي وفاعل في رسم سياسات المنطقة، غير أن ما يهمني هنا، هو: الإشارة إلى أن إيران وحزب الله عمقا كثيراً علاقاتهما داخل بنية النظام السوري، هذه العلاقات التي ظل حافظ الأسد قادراً على رسم تفاصيلها وضبطها بما يتناسب مع سياسته البراغماتية، وبما يدفع إيران وحزب الله إلى الحرص الشديد على بقائها وتنميتها واحترام الحدود التي يضعها.

وبموت حافظ الأسد، وتسلُّم ابنه من بعده، بدأت إيران العمل على كسر ندية العلاقة، ولقد ساعدها في ذلك افتقار بشار الأسد إلى رؤية استراتيجية لمجمل قوى الصراع في المنطقة، يضاف إلى ذلك النفوذ الذي كانت قد حققته داخل بنية النظام السوري.

ثم جاء الغزو الأمريكي للعراق 2003، ليزيد من التقارب السوري الإيراني؛ إذ تخوف كلا النظامين من مخاطر تواجد القوات الأمريكية على حدود بلديهما، الأمر الذي دفعهما إلى زيادة التنسيق والتقارب لمواجهة التطور الجديد. وفي هذه المرحلة بدأت إيران مشروع احتوائها للنظام السوري، وقد لعبت دور القائد في مواجهة التحدي الجديد.

كان محمد ناصيف، مهندس هذا التنسيق، بخبرته المخابراتية وبعلاقاته الطويلة والعميقة مع الأطراف الشيعية في لبنان والعراق وبعلاقته الوثيقة بعائلة الأسد، قد تمكن من تعميق الترابط بين النظامين إلى الحد الذي بدأت فيه ملامح تغيير في تركيبة النظام السوري بما يتوافق مع هذه العلاقة، أضف إلى ذلك أن الجيل الذي بدأ يدير سوريا بعد موت حافظ الأسد لا يتقن لعبة السياسة، وكانت تحركه نزعته للسلطة وتكديس الثروات أكثر مما تحركه متطلبات السياسة ومتغيراتها.

فقادت إيران السياسة السورية الإيرانية فيما يتعلق بالعراق، وبدأت قوافل "المجاهدين" الإسلاميين تتدفق من إيران وسوريا إلى داخل العراق، ولم تمانع أمريكا تمدد إيران داخل العراق مستغلة تركيبة العراق الديموغرافية، الأمر الذي دفع بشار الأسد إلى المزيد من الإحساس بالقوة والثقة، فهو يسيطر على لبنان وعلى سوريا ويتمدد مع حليفه في العراق، وتضطر أمريكا إلى التنسيق معهما في الملف العراقي، كل هذا دفعه إلى أن يقدم على حماقة فرض تمديد رئاسة إميل لحود، الرئيس اللبناني، الذي كانت فترة ولايته قد قاربت على الانتهاء في 2004، تلك الخطوة التي لم تكن مدروسة، فبدت أقرب إلى التهور، وقد فُرضت بعجرفة على الأطراف اللبنانية المعارضة للتمديد؛ الأمر الذي قاد إلى القرار 1559 بخصوص لبنان الذي حمّل النظامُ السوري رفيقَ الحريري مسؤوليته، فألحق حماقته الأولى بحماقة أشد، عندما أقدم على اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005.

وقد تسبب اغتيال الحريري بخروج القوات السورية من لبنان مع بدء عزلة النظام الدولية، أضف إلى ذلك انقلاب معادلة الداخل اللبناني بعد نشوء جبهة لبنانية كبيرة معادية له، وبتشكيل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري، وسلسلة الاغتيالات الأخرى الكثيرة التي تلته داخل لبنان؛ فازداد النظام السوري التصاقاً بإيران وحزب الله، إلى الحد الذي بدأت فيه إيران تتدخل في ترتيب البيت الداخلي السوري حتى الإشراف على حماية بشار الأسد الخاصة.

لم تكتف إيران بالتغلغل داخل تركيبة السلطة السورية، بل توسعت في مد أذرعها داخل نسيج المجتمع السوري

إن اكتمال ارتهان العائلة لإيران ما بين 2005 و2011، قد قاد إلى تغيير بنية الدوائر التي تحيط بالعائلة، سواء أكانت في قيادات الجيش أم في قيادات الأجهزة الأمنية، فأزيحت شخصيات كثيرة رافقت حافظ الأسد، ووضعت محلها شخصيات جديدة، لا يميزها سوى أنها وثيقة الارتباط بحزب الله وإيران.

ولم تكتف إيران بالتغلغل داخل تركيبة السلطة السورية، بل توسعت في مد أذرعها داخل نسيج المجتمع السوري، وبدأت تؤسس لمرحلة التحكم في سوريا ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً ودينياً.

عندما اندلعت الثورة السورية في آذار 2011، كانت إيران الطرف الأقوى في تركيبة النظام السوري، فعمدت إلى إدارة الصراع بما يخدم مشروعها، ومنعت الحلول التي كان من شأنها أن تشكل مخرج الصراع في سوريا؛ فالقادة الإيرانيون لم يكونوا على استعداد لتفويت الفرصة الذهبية في استكمال مشروعهم الرامي للامساك بالمجتمع والدولة والسلطة في سوريا.

أما اليوم، وفي ظل توافق أطراف كثيرة على تحجيم دور إيران في سوريا، وفي ظل تعنت إيران بالبقاء في سوريا مهما يكن الثمن، فإن ملامح صراع وشيك تتجلى هنا وهناك، قد يكون معظمها مستتراً لا يزال، ولكنه صراع يحتدم في مراكز قوى السلطة السورية، وهو صراع سيبقى مرهوناً إلى حد كبير باقتلاع الجذور التي مدتها إيران في بنية المجتمع السوري. وهذا هو الهدف والفعل الذي يجب أن تضطلع به القوى السياسية السورية والمجتمع السوري؛ فالمشروع الإيراني هو الأكثر خطراً، ليس على سوريا وحدها، بل على مستقبل بلدان هذه المنطقة كلها.