العقوبات الغربية على تركيا: المصيدة

2020.12.12 | 23:03 دمشق

shfy-hwlndy-ykhtrq-mhadtht-fydyw-sryt-lwzra-dfa-alathad-alawrby.jpg
+A
حجم الخط
-A

أخذت عواصم القرار الأوروبي بعين الاعتبار مسألة عدم التفريط بمصالحها الاقتصادية والمالية والسياسية مع تركيا ولم تنحزْ إلى ما تقوله وتريده باريس وأثينا. لم يكن هناك عقوبات أوروبية جديدة حقيقية على تركيا بعد قمة بروكسل لكن الأوروبيين تركوا الباب مشرعا أمام خطوة من هذا النوع خلال الأشهر المقبلة إذا لم تبدل أنقرة من مواقفها وتتبنى سياسة أكثر ليونة وانفتاحا في شرق المتوسط.

أعلنت أوروبا أنها أرجأت المواجهة مع أنقرة إلى ما بعد التقرير الذي سيعده أحد كبار قادة الاتحاد جوزيب بوريل والذي سيناقش بعد أشهر في القمة المقبلة. وأشاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ببعض العواصم الأوروبية التي لم تسقط في الفخ الفرنسي – اليوناني وتجنبت قرار التصعيد مع أنقرة، لكن الخارجية التركية كان لها انتقاداتها الشديدة على مضمون البيان الختامي للقمة الأوروبية الذي لم يأت متوازنا ومنصفا في تحليل وتقدير أسباب الخلافات التركية الأوروبية أو التركية اليونانية.

أرادت أوروبا إجلاس تركيا في غرفة الانتظار استعدادا لقدوم الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن لكن دونالد ترامب الذي يحزم حقائبه لمغادرة البيت الأبيض قرر عدم تقليد الأوروبيين في العلاقة مع تركيا. هو وقع توصيات العقوبات التي يطالب بها مجلس المندوبين والكونغرس الأميركي ضد تركيا بسبب صفقة الصواريخ مع روسيا ولم يترك القرار لخلفه. ترامب أراد الانتقام لوزير خارجيته الذي دخل في تلاسن مع نظيره التركي شاووش أوغلو تحت سقف قمة الأطلسي قبل أيام وأراد أيضا أن يقول لبومبيو إنه سيكون إلى جانبه باكرا إذا ما قرر الترشح لمنصب الرئاسة بعد 4 سنوات.

كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما يتباهى بقوله "لا نحتاج إلى أكثر من ذلك مع هذا الشريك التركي المهم تحت سقف الأطلسي"، لكن الشراكة الاستراتيجية بين تركيا والغرب تتحول يوما بعد آخر إلى خصومة استراتيجية.

الهدف الأهم هو إضعاف الموقف التركي هناك ومحاولة عزل أنقرة وإلزامها بالعودة إلى السياسات التقليدية القديمة المعتمدة قبل عقدين

توقيت دخول واشنطن على خط التوتر التركي الأوروبي كان لافتا حقا. الرئيس ترامب لم يشأ التريث في موضوع التوتر الأميركي التركي وقرر التحرك استجابة لتوصيات مجلس المندوبين والكونغرس لناحية فرض عقوبات جدية على تركيا في إطار قانون "كاتسا" الذي يتعلق بمواجهة استهداف مصالح الولايات المتحدة دون تمييز بين شركاء وأعداء.

الهدف هو نقل المعركة مع أنقرة إلى المؤسسات المشتركة بين الجانبين، حلف شمال الأطلسي والمجلس الأوروبي تحديدا. والهدف الأهم هو إضعاف الموقف التركي هناك ومحاولة عزل أنقرة وإلزامها بالعودة إلى السياسات التقليدية القديمة المعتمدة قبل عقدين أو تحمل أعباء المواجهة وارتداداتها الاقتصادية والسياسية والأمنية. ما تريده بروكسل وواشنطن هو تحويل المواجهة من تركية أوروبية أو تركية أميركية إلى تركية أطلسية.

أثينا تطالب بوقف إرسال السلاح الغربي إلى تركيا بسبب سياستها التصعيدية في شرق المتوسط لكن عواصم أوروبية في مقدمتها برلين قررت رمي الكرة في ملعب حلف شمال الأطلسي ليتعامل هو مع الموضوع. أسباب الخلافات التركية الأوروبية تختلف عن أسباب الخلافات التركية الأميركية لكنها ستلتقي تحت سقف حلف شمال الأطلسي حيث ساحة المواجهة الاستراتيجية الجديدة مع تركيا.

معادلة "العزلة الثمينة" التي روج لها البعض من قيادت حزب العدالة والتنمية لم تعد كافية للرد على التحركات الأوروبية والأميركية خصوصا إذا ما قرر الرئيس الأميركي الجديد المضي وراء تنفيذ تهديداته التي أعلنها وهو مرشح للرئاسة ضد تركيا وقياداتها في الحكم. "الوصفة الموجعة" التي يتحدث عنها الرئيس أردوغان لا بد أن تشمل خيارات وملفات السياسة الخارجية التركية أيضا. لم يعد سهلا على أنقرة لعب ورقة التوازنات أو الخلافات الأوروبية الغربية للاستفادة من هذا التباعد خصوصا وأن بايدن وفريق عمله يتحدثون عن تقارب أميركي أوروبي جديد لمواجهة روسيا والصين والعودة إلى صيغ ما بعد الحرب العالمية الثانية التي فوضت أميركا التحرك استراتيجيا في العالم نيابة عن أوروبا.

دائرة الخطر المحدقة بتركيا هي ملفات الإرهاب والطاقة والاقتصاد وكلها متداخلة ومتشابكة في العلاقات بين أنقرة وحلفائها الغربيين الذين لن يسمحوا لأنقرة بتجييرها لصالح أي تنسيق استراتيجي تركي مع روسيا أو الصين أو إيران. لن يكون بمقدور أنقرة بعد الآن الرهان على الانقسام الأوروبي أو تضارب المصالح الأوروبية الأميركية بشأنها فبايدن أعلن باكرا أنه سيوحد السياسات والمواقف بين الجانبين لقطع الطريق على روسيا والصين ومحاولة الاستفادة من هذا الفراغ الاستراتيجي وهي رسالة تعني أنقرة شئنا أم أبينا.

مصطلح "السيادة الأوروبية" الذي استخدمه الرئيس الفرنسي ماكرون لم يكن شائعا من قبل، لكنه تذكير لأنقرة أن الحدود الجغرافية للاتحاد الاوروبي تنتهي عند الجزر اليونانية القريبة من السواحل التركي في إيجه وقبرص التي التحقت بالمجموعة الأوروبية عام 2004 على مرأى ومسمع أنقرة. ماكرون يرفض أن تتحمل أوروبا أية مسؤولية في إيصال الملفات إلى هذه الدرجة من التعقيد: قبول قبرص اليونانية ممثلا لكل الجزيرة ثم تجاهل وجود خلافات تركية يونانية عميقة. أليست هي مسؤولية أوروبية في تأجيج ملفات التوتر بعدما تم تجاهل مصالح تركيا في شرق المتوسط؟

الغرب لن يقبل بسهولة بلعبة توازنات من هذا النوع. شراكة تركية أوروبية أميركية أطلسية ثم شراكة تركية مماثلة مع روسيا والصين وإيران

أردوغان يواصل التصعيد مع الغرب دون تردد. آخر مفاجآته كانت من العاصمة الأذربيجانية باكو عندما تحدث عن حلف إقليمي جديد سيظهر إلى العلن في إطار مجموعة خماسية تضم تركيا وروسيا وإيران وأذربيجان وقرقزستان وأرمينيا إذا ما كانت الأخيرة جاهزة لمراجعة سياساتها. تكتل القوقاز الجديد الذي يدعمه بوتين كما قال الرئيس التركي. الغرب لن يقبل بسهولة بلعبة توازنات من هذا النوع. شراكة تركية أوروبية أميركية أطلسية ثم شراكة تركية مماثلة مع روسيا والصين وإيران.

ما يقوله مستشار الأمن القومي اليوناني ألكسندروس دياكوبولس حول " تركيا تسعى لتنفيذ خططها المائية في السيطرة على المعابر المائية الممتدة بين البحر الأسود وحوض شرق المتوسط "هو الذي قد يكون حرك العديد من العواصم الغربية والإقليمية للاصطفاف ضد أنقرة على هذا النحو.

يقول كبار صناع القرار الروس إن موسكو تنتظر الرد على عروض تعاون استراتيجي جديد قدمت إلى أنقرة بينها التصنيع الحربي الرفيع المستوى وتزويد أنقرة بالمقاتلات الروسية الحديثة. ألا يشكل ذلك عاملا إضافيا لإغضاب الغرب في مسار العلاقات مع تركيا؟

الخلافات التركية الغربية تتقدم رويدا رويدا نحو حالة مشابهة عام 1964 عندما بعث الرئيس الأميركي جونسون وقتها إلى نظيره التركي عصمت إينونو رسالة تهديد علنية في موضوع قبرص "لا تنسوا أن هناك عالما جديدا يتشكل" وجاءه الرد التركي من العيار نفسه "عالم جديد يتشكل وتركيا تأخذ مكانها فيه بكرامة وشرف".