العقل.. بوصفه إماماً غائباً

2020.03.16 | 23:02 دمشق

tnzyl.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لا إمامَ سوى العقل"، قالَها المعريُّ سابقاً الجميع. لكنْ عن أيّ عقل نتحدّث؟ وهل العقل بمعناه المجرّد سليمٌ من الأوهام والعُيوب والقيود؟ هذا ما شغلَ بالَ الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون في كتابه "الأورغانون الجديد" أي آلة التفكير الجديدة، حينما كان الفكر الأوروبي في مُفترَق طُـرُقٍ بين عصر النهضة العجوز، وعصر الفلسفة الحديثة الرضيع. وتلك الأوهام الأربعة التي تحدّث عنها بيكون عام 1620 م، مازالت منتشرة في ثقافتنا العربية انتشاراً واسعاً...

الوهم الأول هو "وهم القبيلة" أو وهم الجنس البشري، فهو وهمٌ يشترك فيه البشرُ جميعاً، لأنه يتعلّق بالطبيعة البشرية. نحن جميعاً نحتكِمُ إلى حواسِّنا، ونجعلُها مقياساً للأشياء. ونحن لا نرى الأشياء كما هي عليه، بل كما نريد نحنُ أنْ نراها، ومن هنا تختلف الأحكام حول جمالية أغنية أو لوحة مثلاً. وكذلك نحن انتقائيُّون ومنحازُون بطبيعتنا، فحين يكون المرءُ مؤيّداً لجهة سياسية أو جماعة دينية أو اتجاه فكري معيّن... فإنه ينتقي الشواهد الإيجابية التي تدعم موقفه، ويغضّ النظر عن الشواهد السلبية التي تزعزع موقفه. ومن أوهام الجنس البشريّ؛ السرعةُ في التعميم، فما إنْ يلاحظ المرءُ حالتين أو ثلاث حالاتٍ حتى يُعمّمها على آلاف البشر، وبتنشيط هذا الوهم تتكوّن لدينا خصائصُ ثابتة ومستقرّة لمفاهيم خاطئة مثل "العقل العربي" و"الرجل الشرقي" و"العقلية الأوروبية"... إذ يميلُ الفهمُ البشري إلى افتراض جوهر ثابتٍ لما هو عابرٌ ومتغيّر.  ومن أوهام القبيلة أيضاً؛ هو رفضُها لكلّ نزعة تجديد أو تفرُّد، واستكانتُـها لكلّ ما هو تقليديّ ومقبُول من الجماعة.

الوهم الثاني عند بيكون هو "وهم الكهف"، فكلُّ فردٍ يولد ويتربّى ويتعلّم ويعيش ضمن بيئةٍ معينة، ويكتسب منها العادات والقِيَم والمعارف وآلية الحُكم على الأشياء والظواهر، فتكون حدودُ المعرفة لديه مقيّدة بحُدود المعارف الـمُتاحة في الكهف، وتصير حدودُ العالم بالنسبة إليه هي حدود الكهف الذي يعيش فيه، وبالتالي فسوف يحكم على كلّ خبرٍ يأتيه من خارج الكهف بأنه كذبة أو مكيدة أو مؤامرة. ولا شيءَ يشبه مثالَ الكهف أكثر من "سوريا الأسد"، فمؤيّدو الأسد كانوا يحسَبون أنفسَهم يعيشون في النعيم منذ عقود، وذلك لأن المستشفيات والمدارس (الله يجعلها كذلك) مجانية، وربطة الخبز كانت بـ 15 ل.س، ولأنّ بعضهم استطاع بالواسطة الحصول على وظيفة حكومية براتب لن يتجاوز 100 دولار. ثمّ راحوا يدافعون حتى الموت عن "امتيازات الكهف" تلك، بعد ثورة السوريين في آذار 2011. وإذا ما حدّثتهم قليلاً عن الحرية أو الكرامة أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان؛ لقالوا إنّ هذي الأشياء أكاذيب صهيونية إمبريالية هدفُها زعزعة استقرار الكهف، وسرقة "بُونات" الرزّ والسُكُّر منه. ولاحظتُ أنّ وهمَ الكهف

الوهم الثالث هو "وهم السُّوق"، وهو الأخطر، فهو يعني الأوهام التي تنشأ من خلال فهمنا للغة واستعمالنا اليومي لها

يصيب رهَطاً من المثقفين أيضاً، وخصوصاً أصحاب الخدمة الطويلة في فُروع اتحاد الكتّاب، فيقول أحدهم -في كلمة رسميّة- إنّ "الاتحاد قدّم لأعضائه ما لم تقدّمه أي منظمة لأعضائها في العالم"! فالمسكينُ يحسبُ أن حدود الكهف هي حدود العالم.

الوهم الثالث هو "وهم السُّوق"، وهو الأخطر، فهو يعني الأوهام التي تنشأ من خلال فهمنا للغة واستعمالنا اليومي لها. يظنُّ الناسُ أنّ عقلهم يتحكّم في الألفاظ، بينما للألفاظ أيضاً دورٌ في التحكّم في العقل. فالألفاظ لا تنطبق على الأشياء التي تشيرُ إليها على وجه الدقة، كما يختلف فهمُ الكلمة الواحدة ودلالاتُها من شخص إلى آخر. فاليوم لدينا مئاتُ المفردات العربية التي اشتُقَّتْ كترجمةٍ لمصطلحاتٍ أجنبية، منها ما تكون دقّةُ مطابقتها لمعنى المصطلح الأجنبي عالية، ومنها ما تكون بعيدة عنه، ناهيك أنّ الكلمة العربية الواحدة مشحونة بكثير من الدلالات التي اختلفتْ عبر الأزمنة والأمكنة. ولذلك نرى أنّ حوارات المثقفين لدينا سُرعان ما تتحول إلى "حوار طرشان"، بسبب عدم وجود اتّفاق عامّ حول معاني المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في الحوار، فكلٌّ منهم يفهم المفردة الواحدة بمعنىً مختلفٍ عن الآخر. وأذكرُ من المفردات التي كثيراً ما تُستخدم بمعنى خاطئ في الصحافة العربية: الفِصَام، السَفْسَطة، المثقف العضويّ، النِسْوية والنسائيّة، الحداثة وما بعد الحداثة... أما مفهوم "العَلْمانية" فقد تشَوَّه من كثرة سُوء الاستخدام حتى فقدَ معناه.

الوهم الرابع من أوهام العقل هو "وهم المسرح"، وهي الأوهام التي انسربتْ إلى عقول البشر من النظريات والعقائد والأيديولوجيات. وقد سمّاها بيكون بهذا الاسم لأنه رأى أنّ مُبتكري المذاهب الفكرية قد جعلُوها أشبَهَ بمسرحياتٍ تؤدَّى على مسرح، خالقةً عوالـمَها الزائفة والوهمية. ولأنّ تلك المذاهب قد استطاعتْ أن تفرض سُلطانها على عقول البشر بفعل (1) سَطْوة الإجماع، فعندما يجمع أغلبُ الناس على أنّ منطق أرسطو صحيح، فلن يجرؤ أحدٌ على نقده أو التشكيك فيه. وكذلك بفعل (2) سَطْوة القِدَم، فالبشر يميلُون إلى رفع قيمة كلّ ما هو قديم وتقديسه، فيصبح رأيُ عالِمٍ من القرن العاشر أهمّ -في نظر كثيرين- من رأي عالمٍ من القرن العشرين.  وكمثالٍ على تفشّي وهم المسرح في ثقافتنا العربية، فما إن يقول أحدهم "قال الإمام فلان" أو "قال الخليفة علتان" حتى يخرسَ المستمعون ويُسلّموا بصحّة ما سيأتي من كلام. وهذا هو حالُ مُعتنقي الأيديولوجيات السياسية أيضاً، فمجرّد أنْ يكون الكلام صادراً عن الـمُنظِّر الزعيم أو القائد الفذّ؛ فإنه ينزل لديهم بمنزلة اليقين. وكثيراً ما نلاحظ أنّ صفحات التواصل الاجتماعي تمتلئ بـ "أقوال مأثورة" يتناقلها آلاف المستخدمين، معظمُها منحولٌ أو بلا معنى، لكنّ مجرّد وجود اسم دوستويفسكي أو سيوران أو الرُّومي أو محمود درويش... تحتها؛ فإنه يعطي للمقولة قيمةً وأهمية في نظر الـمُشاركين لها.

"لا إمامَ سوى العقل"، نعم. لكن بشرط أن يكون سليماً من الأوهام الأربعة، وأن يكون حاضراً -فاعلاً ومُنفَعِلاً- في قضايا الواقع. لا أنْ يكون بمثابة إمامٍ غائب مقدّس، تُرفَع له الأدعيةُ والابتهالات، وهو غارقٌ في أوهام الماضي والخرافة.