العرب أمام العقدة السنيّة وخواء الأقليّة.. ماذا بعد سقوط الأسد؟

2020.05.07 | 00:02 دمشق

320181893114751.jpg
+A
حجم الخط
-A

على مدى عقدين من الزمن منذ انطلاق الحملة الدولية لمحاربة الإرهاب، إثر أحداث الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١. دفعت دول الشرق الأوسط، برمزيتها السنية، الثمن الأكبر سياسياً، ومادياً، واجتماعياً وعسكرياً لهذه الحملة. ربما حان الوقت للقوى "الشيعية" الشرق أوسطية أن تدفع الثمن المتبقي، لإعادة صياغة المنطقة ونظامها وتوازناتها السياسية والجغرافية والديمغرافية. دفعت السنيّة السياسية والاجتماعية، ثمن افتقادها أي مبادرة على الصعيد السياسي العربي. لم يكن لدى العرب السنّة أي مشروع لتحقيق دول وطنية تقدمية تحفظ فيها حقوق المواطنين وتحترم الواجبات. ولا رؤية عربية ترتكز إلى نظام المصالح العربية، بما فيه الأمن الإقليمي.

غياب المشروع الوطني، سمح بإجهاض الثورة السورية من دواخلها، وبتوجهات دولية اقتضت مصلحتها أن تؤول التطورات إلى ما آلت إليه.

الكسل السنّي، أنتج إحباطاً وضياعاً سياسياً، دفع بعوام السنّة إلى اليأس والإحباط، والذي بدوره يدفع إلى اللجوء للأصوليات والتنظيمات المتطرفة التي تستغل الفراغات وتلج من ثقوب النواقص. في المقابل، انخرطت مجموعات بشرية في المنطقة متنوعة الانتماءات والتوجهات في مشاريع سياسية خاصة بها. وإلى الشيعة في إيران في إطار مشروع تصدير الثورة، وتحضير الأرضية لبنى مجتمعية موالية لإيران تنتج إداراتها الذاتية، فخلقت هذه الأنسجة من خيوط المجتمع الواحد، فمزّقته إلى دويلات. وللأكراد مشروعهم الثابت، إذ لم تنجح الأكثريات في احترام ذاتيتهم ولا استقطابهم إلى مشاريع دولة وطنية.

غياب المشروع الوطني، سمح بإجهاض الثورة السورية من دواخلها، وبتوجهات دولية اقتضت مصلحتها أن تؤول التطورات إلى ما آلت إليه. دفع السنّة الثمن في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا. وعادوا ودفعوه مرّة ثانية سياسياً في كل دول الخليج العربي، التي ذهبت إلى التنازل عن ثوابت كثيرة، والتضحية بالقضايا التاريخية لصالح الحفاظ على الأنظمة والبنى السياسية على حساب البنى الاجتماعية، فخسرت أدوارها التأثيرية خارج حدودها الجغرافية.

استسلم السنّة العرب لمصيرهم، ودفعت شعوبهم من حياتها ومستقبلها وكيانات دولها. بينما يستمر الأكراد بنضالهم وجهادهم، ويعمل الشيعة على استكمال مشروعهم. لكن لا بد لهم أن يدفعوا الثمن، اجتماعياً قبل السياسة، وديمغرافياً قبل الحروب العسكرية والمعارك. وأول بوادر هذه الأثمان يدفعها هؤلاء على الصعيد المالي، ولكنهم استدرجوا كل المجتمعات إلى دفع الثمن معهم. الثمن المالي الذي يدفعه أبناء المجتمع اللبناني، السوري والعراقي، يمثل الصورة الجلية للترابط فيما بين الحواضر التي تسيطر عليها إيران.

انفلشت معاناة النظام السوري مالياً مع انهيار الواقع المالي اللبناني واستنزاف الدولار من السوق اللبناني لرفد سوريا به، والأمر نفسه يرتبط بتهريب المحروقات كالبنزين والمازوت إلى سوريا، وانعكاسه على الواقع المالي اللبناني، من خلال الاستفادة من هذه المحروقات ذات الأسعار المدعومة من الدولة اللبنانية وتهريبها إلى سوريا. حال الإيرانيين وحلفائهم في العراق لم يكن مغايراً، في ظل التضييق الأميركي الخانق على عمليات بيع النفط العراقي أو الإيراني في السوق السوداء، وتحويل عائداته الدولارية إلى الحشد الشعبي، أو حزب الله، أو إلى ميليشيات إيرانية تقاتل في سوريا.

نجح حلفاء إيران في كل من سوريا والعراق ولبنان، بالاستناد إلى فائض قوتهم العسكرية، بتطويع اقتصادات هذه الدول وسياساتها المالية والنقدية. كما نجحوا بطرق شتّى بالالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة عليهم، من خلال نظام صرافة موازٍ للمصارف، والاستحواذ على الدولار في الأسواق وتخزينه لتمويل مشاريعهم وبناهم التنظيمية والعسكرية. هذا المخزون الدولاري سينفد خلال أشهر، وعندها ستظهر الأثمان التي ستدفع، وسيكون لها انعكاسها الاجتماعي والسياسي، خصوصاً مع اتساع رقعة العقوبات على إيران وحلفائها، ودخول قانون قيصر حيز التنفيذ في شهر حزيران المقبل، والذي سيطول كل من يتعاون مع النظام السوري.

وإثر تفاقم هذه الأزمة المالية، ستنجم عنها خلافات كثيرة داخل الأجسام التنظيمية الواحدة، على غرار الخلاف داخل بنية النظام السوري بين آل الأسد وآل مخلوف. بذلك، لن يدفع السنّة وحدهم الثمن السياسي والمالي لإخفاقهم في بناء مشروع سياسي متكامل أساسه الوطنية وقوامه الانخراط في دولة من دون تمييز بين مكونات أبنائها. كما سيدفع الشيعة ثمن انخراطهم في مشاريع لتفتيت الدول الوطنية التي ينتمون إليها، لصالح طموحات جموحة في بناء مشاريعهم التي تتناقض مع مفهوم الدولة. كما دفع الأكراد الثمن أكثر من مرة، بسبب رهانات مختلفة ومتناقضة. وكذلك بالنسبة إلى المسيحيين في لبنان، الذين بدؤوا يستشعرون خطر انخراطهم في مشاريع الأقليات، والذهاب إلى إيران بدلاً من العرب، ما ينعكس انهياراً لكل منظومة القيم اللبنانية، وبنى الدولة التي كان يتفاخر المسيحيون منذ 100 سنة، بإرسائهم لها وترسيخها، خاصة أنهم أصحاب الدولة والنظام والمنظومة الاقتصادية والمصرفية، وهذه الثلاثية قد انهارت بكليتها. يحاول جزء منهم التغطية على هذه الخسائر والنكسات والانكسارات، بدعائيات بطولية واهية، حول استعادة الدور القوي والصلاحيات المتعززة، وهذا ينجم عن سوء تقدير وقصر نظر لواقع الحال، إذ ستنفجر الأزمة بوجههم مجدداً، كما انفجرت بوجههم في العام 1990 بعد التورم الذي أصاب ميشال عون حينها، وها هو التورم ينتفخ أكثر حالياً.

بنيت نظرية المشاريع الموازية للدول الوطنية، والناجمة عن شعار تحالفات الأقليات، على مبدأ التقارب مع الغرب والبازار المفتوح مع إسرائيل، تهديداً وطمأنة، وجعل مادة الصراع أو التهدئة مع إسرائيل، عبارة عن حلبة اختبار واستدراج للعروض مع المجتمع الدولي. أسهمت هذه السياسات، بدفع العرب إلى إسرائيل، فخسروا مشروعهم وحضورهم. لكن السياسات ذاتها، ستدفع الإيرانيين والأقليات والحلفاء أيضاً إلى إسرائيل على قاعدة ضمان أمنها وحفظها، على غرار معادلة البعث في رأس السلطة السورية منذ السبعينيات إلى اليوم.

الصراع بين العرب المفتقدين لأي مشروع وطني شامل، وبين إيران صاحبة المشاريع التوسعية التي تنطوي على تقسيم دول وتشليع مجتمعات، هو فيمن يتقارب أكثر مع المجتمع الدولي والأميركيين بالتحديد، وإسرائيل من تحتهما. لكن المعارك التي يفلح بها الإيرانيون، لا يمكنها أن تبقى مستمرة. ثمة حاجة دولية إلى إرساء الهدوء والاستقرار، وإن بإبقاء مجالات التنازع السياسي قائمة. في مثل هذه الحالات ستدفع إيران وحلفاؤها الثمن كما دفعه خصومها.

وهذا يستشرف من جملة تطورات ووقائع، أولها الاتفاق الأميركي الروسي التركي حول الوضع في سوريا، وحماية إدلب مقابل التنسيق الدائم بين هذا الثلاثي واستبعاد طهران، ثانياً من خلال الاستهدافات الإسرائيلية المستمرة ضد الأهداف الإيرانية في سوريا، والغارات التي تدمر مواقع ومخازن أسلحة وصواريخ لإيران ولحزب الله على الجغرافيا السورية. ثالثا، الموقف الأميركي الذي يعتبر أنه من الجنون الرهان على إخراج بشار الأسد من الحضن الإيراني. ورابعاً التحضير لمشروع مشترك روسي أميركي تركي، يتعاطى مع الواقع على الأرض، وأنه لا يمكن لبشار الأسد أن يستمر في السلطة، ولا بد من إنتاج سلطة بديلة تمثل عنواناً للمرحلة الانتقالية، فيتولى السلطة وصلاحياتها مجلس انتقالي، تجتمع فيه قوى تمثل نظام البعث، وأخرى تمثل الأتراك، وثالثة تمثّل المعارضة بمختلف ألوانها، المحسوبة على روسيا أو منصة روسيا، والمحسوبة على الأتراك، والمحسوبة على مصر ودول الخليج.

والمبدأ الأهم، والذي سيحتم رحيل بشار الأسد عاجلاً أم آجلاً، فيما كل محاولات إبقائه لا تعدو إلا أنها محاولات للقفز على التاريخ وجدليته، ومناقضة أي منطق عقلاني.

والمبدأ الأهم، والذي سيحتم رحيل بشار الأسد عاجلاً أم آجلاً، فيما كل محاولات إبقائه لا تعدو إلا أنها محاولات للقفز على التاريخ وجدليته، ومناقضة أي منطق عقلاني. خاصة أن نظريات تحالف الأقليات، لن تؤدي إلا إلى مزيد من الصدام وإطالة أمد الصراع. وموسكو التي تريد لبقائها في سوريا أن يستمر لنصف قرن وأكثر، لا يمكنها أن تبقى على أنقاض مجتمع، ولا يمكنها تجاهل الأكثرية الديمغرافية الموجودة، حتى ما بعد تهجير أكثر من نصف هذه الأكثرية إلى شتى أصقاع العالم، لا يمكن لروسيا أن تبقى في سوريا بدون حاضنة اجتماعية، هذه الحاضنة لا يمكن أن تتوفر للإيرانيين، ولا يمكن أن توفرها بيئة النظام الطائفية، أي حضور لا بد له أن يحظى برضى من قبل الأكثرية السنية، وهذا لا ينفصل عن أي مسعى أو مشروع لإعادة الإعمار، الذي سيكون تمويله عربياً وخليجياً بالتحديد، ما سيفرض على روسيا الضغط أكثر على إيران، لإرضاء دول الخليج. وعندها لن تكون المشكلة مع إيران، إنما في الصراع بين دول الخليج وتحديداً السعودية والإمارات، مع ممثل آخر للأكثرية السورية، وهما قطر وتركيا. وهذا الخلاف يستمر بسبب فقدان أي مشروع عربي ووطني يخرج من الإطار الطائفي أو المذهبي.