العربية.. ليست لغة

2019.12.17 | 19:45 دمشق

images_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعلَّ كثيرينَ يذهبون إلى أن الحديث في اللغة هو شأن الدارسين والمتخصصين، وأنّ استنزاله منزلة الضرورة والحاجة هو ضربٌ من المبالغة وخروج عن النسق المألوف في مُسلّمات الحياة المعاصرة، ولا سيما أنّ عوالم التقنية والتقدم العلمي والصناعي باتت ميدانَ تنافس وتسابق لإنتاجِ ما هو أكثر إدهاشاً من سابقه، وأمسى ذلك التنافس مقياسَ تطوّرٍ وحضارة -أو قل مقياسَ مدنيةٍ- في مجتمع صناعي يضج بالمفاجآت، بعيداً عن العلوم الإنسانيةِ النظرية عامةً وعلوم اللغة خاصة، وهذا التصوّر في حدّ ذاته لا يعكس علاقتنا باللغة بمقدار ما يعكس طبيعة فهمنا للعلوم التطبيقية والعملية فضلاً عن العلوم الإنسانية؛ إذ باتَ تصوّرنا أصلاً عن تقدّم المجتمعات الصناعية تصوّراً بسيطاً ساذجاً حين ربطنا نتائج ذلك التقدم الذي نراه بالعلوم التطبيقية دون غيرها، بعيداً عن تعاضد العلوم فيما بينها وتناغمها لإنتاج ذهنيّةٍ علميّةٍ قادرة على النجاح والإدهاش في كل ميادين الحياة، بَدْءاً من طفولة الإنسان التي تُعنى فيها المجتمعات المستقرّة أولَ ما تُعنى بلغةِ الطفل؛ لأنها تدرك أنّ سلامة اللغة هي واحدة من طرق الوصول إلى سلامة التفكير، فاللغة ليست وسيلة التصوير والتعبير فحسب، بل هي من أهم وسائل الذكاء والتفكير، فبها تصاغ الأفكار العقلية الذهنية، وبها تتكون العلاقة بين الأفكار ذاتِها من جهة، وبين الإنسان ومحيطه الخارجي من جهة أخرى، وإنّ سلامة الذهنية اللغوية في العقل هي الطريق الأول للبناء الفكري الصحيح، ما يعني الوصول إلى نتائج علمية وعملية متناغمة ومتكاتفة لتحقيق التقدم المنشود. وباختصار يمكن القول: إنّ اللغةَ -أيّاً كانت- هي أنتَ حين تريد أن تفكّرَ أو تعبّر، وكلما وصلَتِ اللغة إلى مستوًى من الجمال جرّتْ صاحبَها إليه. ويبدو أن العربيّ القديم كان يدرك أثر اللغة في تكوين الشخصية، فكان يحرص

إنّ اللغةَ -أيّاً كانت- هي أنتَ حين تريد أن تفكّرَ أو تعبّرَ، وكلما وصلَتِ اللغةُ إلى مستوًى من الجمالِ جرّتْ صاحبَها معها

على نشوء الأطفال في بيئة صحيّةٍ لغوية، يستطيع الطفل من خلالها أن يمسك بتلابيب اللغة في صورها الصحيحة مستفيداً من خصائصها التي تحيلُ إلى تكوين الشخصية بمخارج حروفها وفصاحتها ومستويات التعبير، فضلاً عن أدبها الرفيع الذي تربّع في الصفوف الأولى للآداب الإنسانية العالمية.

إنّ الوظيفة الأساسية للغة هي التواصل، غير أنّ هذا التواصل نفسه يخضع لمستويات أيضاً، وهو العتبة الدنيا مما ننشُده من اللغة، وأنتَ ترى كيف تَسهُلُ مهمة الأمِّ حين يبدأ صغيرها بالكلام، فهي قبل ذلك اعتمدتْ على أمومتها لتحديد حاجاته ورغباته، فتخطِئُ حيناً وتصيبُ في كثير، ثم تكفي أحرفُه البسيطة للتعبير عما يريد دون مواربة. وقد صاح فيلسوفٌ يونانيّ قديم برجلٍ ساكت: (تكلّمْ لأراك)، وفي هذا المعنى قيل: (إن الإنسانَ مخبوء تحت لسانِه، فإذا تكلّمَ ظهرَ). وكثيراً ما يقف الواحدُ منا أمام موقفٍ من مواقف الحياة ليعبرَ عن صدمتِهِ بــ(السكوت)، لتتجلى اللغة حاملةً لشخصية الإنسان وردَّة فعله وطريقة تفكيره كذلك، فهي مَجلى ما في النفس من مشاعرَ وأفكار ومعان وانفعال، وهي والإنسان شيء واحد، لا يعيش أحدهما دون الآخر. وحينما يدرك المرء تلك الحقيقة، فلن يغدو الحديث في اللغة شأن الدارسين والمتخصصين إلا في مجال البحث العلمي والدراسات التي لها أهداف علمية ومسارات معروفة، بل هو شأن من شؤون الحياة، يؤثر في أدق تفاصيلها ونشأةِ أبنائها وصعودهم في السلّم الحضاري الإنساني.

ذلك ما يقال عن أية لغة ودورها في بناء الحياة، وأمّا اللغة العربية فقد باتَ تصوّرُ أبنائها لها تصوّراً باهتاً؛ ونظروا إليها على أنها لغة الإعراب المعقدة بنحوها وصرفها، ولغة الإعلام في البرامج الرسمية وفي نشرات الأخبار ولغة الإنسان القديم المتأخر، وهي لغة العلامة المُرسّبة في المدارس، وانعكسَ ما لاقوه في مراحل تعلّمهم لها على علاقتهم بها، فخسرت العربيةُ في نفوسهم موقعَها الأصيل، ولا شك أن ذلك كان نسبياً متفاوتاً من مرحلة إلى أخرى، وإن كانت المراحل جميعها مترابطة بروابط التأخر العلمي والصناعي والاستلاب الفكري لصالح الأطراف القوية المؤثرة في العالم، وعليه فمن الطبيعي أن تهتز العلاقة بين العربية وأهلها مرتين: مرة حينما اغتربوا عنها بأدوات تعلّمها وطريقة معالجتهم لها وفهمهم لمستوياتها، ومرة حينما أصبحت المسافة بعيدة بين أهل العربية ودول العالم المتقدمة. لتُقبِلَ الأجيال على لغات الأمم القوية الحيّة، كالإنكليزية والفرنسية وغيرها، وهذا مهمٌّ وواجب، ولكنها فقدت شخصيتها وهي مستعدة للذوبان اللغوي مبدئياً والفكري لاحقاً تحت مظلة الآخر القوي، ولو جاء الإقبال على اللغات الأجنبية في إطار التناغم مع روافد الحضارة الإنسانية لكانَ ذلك ذروةَ الانفتاح الحضاري المطلوب، لكنه كان أشبهَ بالإقبال القسريّ الذي فرضته موجاتُ الهجرة والاغتراب وأدواتُ الحياة المعاصرة وتقنيات الصناعة المتقدمة، إزاء تأخر كبير يعيشه العرب في مستويات الحياة جميعها، وهذا ما زادَ الشرخ والمسافة بين العربية وأبنائها، ولذلك بات من الطبيعي أن يفكر الجيل الحالي بمنطق الغربيّ الأجنبي، ولا سيما بعد تقلص المسافات حقيقةً ومجازاً، فهو -أي الجيل- يفكر بواسطة علائق لغوية تسكن ذهنه، ومفردات توجّهه من حيث يدري أو لا يدري، ولن تجد تلك المفرداتُ في داخله العميق نظيراً لغوياً أصيلاً يواجهُ من خلاله الجديدَ بفهمِ معناه ومعرفة موضعه أو الحكم عليه قَبولاً أو رفضاً، لأن تأصيله اللغوي مفقود أصلاً، ولذلك يسهل جدّاً أن تسيطر عليه وتمارس الدور الذي تريد في تكوينه وبناء شخصيته، دون القدرة على وعي طبيعة اللغة الجديدة، نظراً لغياب ما يماثلها أصلاً في تكوينه اللغوي الأول، وهذا يسهل اكتشافه، وتتجلى صوره في ضعف الترجمة الشفوية وتواضع إمكانيات التعبير.

تقعُ وظيفة اللغة العربيّة بين اللغات في النطاق التواصليّ أوّلاً، شأنُها في ذلك شأنُ أيّة لغة، ونقرُّ أنّ دارسيها -سواء كانوا من أهلها أم من غيرهم- يشتكون من تعقيدات نحوها وصرفها وإملائها وصعوبة إتقانها كما أتقنَها أهلُها الأوّلون لأسبابٍ ذاتيةٍ

إنَّ الإنسانَ باللغة هو روحٌ متساميةٌ في فوضى الحياة وصخبها، ففي اللغة أسرارُ التفكير ومنابعُ الجمال وروح الإنسان المستترة خلف الحرف بحثاً عن مكنون الوجود ولغز الحقيقة

وموضوعية، ويُصنَّفُ أدبُها -في الوقت ذاته- في ذروة الأدب الإنساني فنّاً وجمالاً وقِدماً، علاوة على مُتعة مسائلها اللغويّة في النحو والصرف والبلاغة، وتعدّدِ القدرة على التعبير بها، ومكانتها المقدّسة في نفوس العرب والمسلمين من غير العرب، وما تحظى به من احترام لدى الدارسين المتخصصين من المعنيين بالشأن اللغوي والأدبي، أعاربَ أو أعاجم، ممن عرفَ قيمتَها وأدركَ شأنَها، ورأى فيها ما يجعل العقل الإنساني ينطلق إلى الفهم ويدفع الوجدان إلى السموّ، وأدركَ أنَّ الإنسانَ باللغة هو روحٌ متساميةٌ في فوضى الحياة وصخبها، ففي اللغة أسرارُ التفكير ومنابعُ الجمال وروح الإنسان المستترة خلف الحرف بحثاً عن مكنون الوجود ولغز الحقيقة. وبذلك لا تكون العربية مجرد لغة، والنفسُ تشرقُ فيها على آفاق الجمال، فتكثر التعابير والتصاوير، وتتجلى المعاني الدقيقة والرقيقة، وتختلف التراكيب وتتمايز في الإيحاء تبعاً للمقام، إطناباً أو إيجازاً أو مساواة، فإذا تتبعتَ مسارَ الكلمة من لحظة خروجها المعجميّ إلى حيث شكلُها في الجُملة الملفوظة، وتآلف التراكيب فيما بينها، عرفتَ كيف يضبطُها النحوُ، وكيف تجري البلاغة في عروقها، وترى كيف استطاع أدباء العربية من قرون خلت إلى يومنا هذا أن يرسموا بحروفها معنى الخلود الأدبي الرفيع في أبهى صورة من صور التواصل الإنساني الراقي، وبهذه اللغة أطلَّت علومُ المنطق والكون والطب والهندسة والإنسان، تلك العلوم التي قدمت للحضارة الإنسانية نوافذَ مشرقة، يومَ تبارى الناس في فهم العربية وخصائصها وفنونها، ويومَ كان العلماءُ لغويين وأدباء، إلى جانب الطب والفلسفة وعلوم الحياة، وعلى أجيالنا أن تدرك ذلك، وتعرفَ أثر اللغة العربية ومداها، وموقعها العالمي في التراث الإنساني، ليرتفعوا بها وترتفعَ بهم.

كلمات مفتاحية