العراق.. مخدّرات ومخطّطات!

2022.01.11 | 05:06 دمشق

8cee5c98-be33-4ebe-a46f-106e288c663a.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تعد قضيّة المخدّرات مجرّد تجارة دوليّة لجني الأموال بالعملات الصعبة، وإنّما تطوّرت الغايات المراد تحقيقها من وراء هذه التجارة الخبيثة، ومنها الأهداف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة.

والمخدّرات كارثة مجتمعيّة غزت العراق بشكل لافت للنظر بعد العام 2003، وبرزت بشكل واضح خلال السنوات العشر الأخيرة.

وتسعى الدول الكارهة للعراق للعمل على مشروع تفشّي المخدّرات داخليّاً ضمن أجندات ومخطّطات دقيقة لضرب الدولة والإنسان على حدّ سواء!

وقد أشارت العديد من التقارير الرسميّة إلى أنّ منفذ الشلامجة وميناء أم قصر الحدوديّين مع إيران عبر محافظة البصرة الجنوبيّة يعدّان من أبرز منافذ تهريب المخدّرات القادمة من إيران وأفغانستان والباكستان!
إنّ الحدّيّة والحزم كانتا من أكبر أسباب عدم انتشار المخدّرات في العراق قبل العام 2003 على الرغم من الظروف المجتمعيّة والاقتصاديّة القاسية التي أعقبت الغزو العراقيّ للكويت وضربت صميم المجتمع إلا أنّنا لم نسمع بتفشّي المخدّرات بين المواطنين، وأيضاً لم نجد أيّ إحصائية رسميّة تؤكّد ظاهرة المخدّرات قبل الاحتلال، ولكنّ المؤكّد أنّ العراق يحسب قبل العام 2003 من البلدان الخالية من المخدّرات من ناحية التعاطي والترويج والمتاجرة بها.

عمل كبار التجار المدعومون من القوى المالكة للسلاح والنفوذ على تطوير الاستهلاك المحلّيّ للمخدّرات

وكان العراق في بداية الاحتلال يعدّ من الممرات الآمنة والمهمّة لتوريد المخدّرات لدول الخليج العربيّ، ويبدو أنّه، وبمرور الوقت وتنامي التخريب في الجوانب الأمنيّة والسياسيّة والفكريّة والعقائديّة والمجتمعيّة، أصبح العراق من الدول المستهلكة لهذه الآفة!

وقد عمل كبار التجار المدعومون من القوى المالكة للسلاح والنفوذ على تطوير الاستهلاك المحلّيّ للمخدّرات، وذلك لتحقيق جملة من الأهداف الآنيّة والمستقبليّة.

وفي الأشهر الأولى لمرحلة ما بعد الاحتلال بدأت ظاهرة بيع الحبوب المخدّرة على أرصفة الشوارع كجزء من مفهوم الحرّيّة الشخصيّة المستوردة!
وقد تنبّهت وزارة الداخليّة لهذه الظاهرة، وبينت عبر موقعها الرسميّ أنّها استشعرت بالأخطار المحدقة التي تقف وراء جريمة المخدّرات واستحدث عام 2004 مكتب المخدّرات المركزيّ في بغداد والمحافظات لتأخذ على عاتقها مكافحة هذه الجريمة وملاحقة المتورّطين فيها وإحالتهم للقضاء.

ومع هذه المحاولات المبكرة لمكافحة المخدّرات إلا أن العراق أصبح بمرور الزمن أرضا خصبة لتعاطي المخدرات وزراعتها!

هذه التغير في وضع المخدّرات وتناميها الكاسح بين المواطنين تنامى سريعا في السنتين الأخيرتين، حيث غزت تلك الآفة المجتمع بنطاق غير متوقّع، ولدرجة أنّ وزير الداخليّة العراقيّ عثمان الغانمي ذكر مرارا وآخرها بتاريخ 22 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021، أنّ نصف شباب العراق مدمنون على المخدّرات!

وكشف مدير عامّ مكافحة المخدّرات مازن القريشي ضبط نصف طنّ وأكثر من مليون ونصف المليون حبّة مخدّرة خلال 2021 فقط!

وسبق لمجلس القضاء الأعلى أن صرح بأنّ نحو 70 بالمئة من المدمنين في الأحياء الفقيرة والمناطق التي تكثر فيها البطالة وغيرها من المشكلات الاجتماعيّة المعقّدة والمركّبة.

وحينما نتحدّث عن أنّ 50 بالمئة من الشباب مدمنون على المخدّرات فهذا يعني أنّنا نتحدّث عمّا لا يقلّ عن خمسة ملايين شاب.

ومعلوم أنّ الشباب هم الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 – 24 عاما، وأنّ نسبة شباب العراق، وبحسب وزارة التخطيط، قريبة من 20 بالمئة من عموم السكّان، وهذا يعني أنّ المتعاطين لا يقلّون عن خمسة ملايين شاب، وذلك على اعتبار أنّ عدد سكّان العراق هم 40 مليون نسمة!

فكيف سيبنى الوطن ونصف شبابه مدمنون على المخدّرات ويعيشون في عوالم الأوهام؟

أمّا بخصوص أكثر الأنواع انتشارا وخطورة فهو (الكريستال ميث) وذلك وفقا لتقرير مكتب الأمم المتّحدة الخاصّ بالمخدّرات، والصادر في شباط/ فبراير 2021، ويليه الكبتاغون والترياق.

وخطورة الكريستال تكمن في أنّه أصبح يصنع بأساليب خفية وخطيرة داخل العراق بعد أن كان يهرب من إيران أو أفغانستان، وأكّدت العديد من التقارير الإخباريّة أنّ سعر الغرام الواحد من الكريستال اليوم يباع بأقلّ من (13) دولارا، بعد أن كان سعره قبل أربع سنوات أكثر من مئة دولار، وهذا يؤكّد زيادة العرض، وتنامي التصنيع المحلّيّ!

وبمتابعة الموقع لمديريّة مكافحة المخدّرات نجد أنّ هنالك عمليّات شبه يوميّة لإلقاء القبض على التجار في عموم المحافظات ومع ذلك أتصوّر أنّ المديريّة بحاجة إلى مضاعفة وتطوير قدراتها البشريّة والمهنيّة لمواجهة هذه الكارثة الساحقة!

وقد حاول المشرّع العراقيّ المساهمة في معالجة ظاهرة المخدّرات، حيث ذكرت المادّة (27) من قانون المخدّرات رقم (50) لسنة 2017:

يعاقب بالإعدام أو بالسجن المؤبّد كلّ من استورد أو صدر موادّ مخدّرة أو مؤثّرات عقليّة، أو أنتج أو صنّع موادَّ مخدّرة بقصد المتاجرة بها في غير الأحوال التي أجازها القانون، أو زرعَ نباتا ينتج عنه موادّ مخدّرة أو استورد أو صدّر نباتا من هذه النباتات في أيّ طور من أطوار نموّها!

فيما تعاقب المادّة 28 من ذات القانون بالسجن من 15 عاماً إلى المؤبد على كلّ مروّج أو حائز على المخدّرات، بينما قضت المادّة 32 بالحبس مدّة لا تقلّ عن عام ولا تزيد على ثلاثة أعوام وبغرامة ماليّة على كلّ من تعاطى الموادّ المخدّرة!

ومع جميع هذه القوانين الصارمة وجدنا تناميا للمخدّرات من حيث الاتّجار والتعاطي، وعليه أعتقد بأنّه يمكن مواجهة المخدّرات عبر السبل الآتية:

- القوّة العادلة القادرة والضاربة لكلّ مَنْ يتلاعب بمصير البلاد عبر سموم المخدّرات، حيث يفترض عدم التراخي معهم، والضرب بشدّة وتطبيق القانون بلا محاباة لأنّنا نتحدّث عن سحق لربع الشعب بسبب المخدّرات.

- توفير الحماية لكلّ مواطن يُبلّغ عن عصابات المخدّرات، وأن تكون هنالك هدايا تحفيزيّة للمبلّغين لتنمية المساهمة الشعبيّة بمكافحتها!

- تفعيل عقوبة الإعدام لكبار تجار المخدّرات والعقوبات القاسية بحقّ بقيّة التجار لتجفيف منابع المخدّرات.

وفي أوّل قرار من نوعه بعد العام 2003 أصدرت محكمة جنايات بابل منتصف كانون الأوّل/ ديسمبر 2021، حكمين بالإعدام بحقّ مجرمين اثنين من تجار المخدّرات.

- ضرورة دعم المستشفيات النفسيّة والعقليّة لتقديم أفضل الخدمات للمتعاطين، وبالذات مع الحديث عن عجز واضح للمستشفيات الحالية عن تقديم الخدمات لملايين المواطنين، وقلّة الكوادر الطبّيّة المختصّة ولزوم توفير المزيد من الوحدات وبناء مستشفيات مختصّة لمواجهة تنامي أعداد المدمنين في البلاد.

- تشجيع توعية العوائل لأبنائها بخطورة المخدّرات، وأن تكون الأسرة والعشيرة وحتّى الأصدقاء سندا وعونا لضحايا هذه الكارثة من أفرادها، والنظر إليهم بعين الرحمة والشفقة للوصول إلى مراحل العلاج التامّ!

- تفعيل دور علماء الدين ووسائل الإعلام وقوى المجتمع المدنيّ للمساهمة بمعالجة ظاهرة التعاطي، وضرورة مساهمة الجميع في التوعية الشرعيّة والقانونيّة والأخلاقيّة وتشجيع الإقلاع عنها ولو بالتدرّج.

الحروب على شبكات تهريب المخدّرات وتجارتها لا تقلّ خطورة عن الحروب مع الجماعات الإرهابيّة

هذه الوسائل وغيرها ربّما تساهم في تجفيف منابع المخدّرات ومساعدة المدمنين عليها، وفي كلّ الأحوال ينبغي التمييز ما بين التاجر والمتعاطي، فالأوّل مجرم ويستحق العقوبة، والمتعاطي ضحيّة يفترض التعامل معه برفق وعدم تركه ورقة في مهبّ الريح!

إنّ الحروب على شبكات تهريب المخدّرات وتجارتها لا تقلّ خطورة عن الحروب مع الجماعات الإرهابيّة بل إنّ عصابات المخدّرات أشدّ ضررا لأنّها تقتل بالجملة وضحاياها بالملايين!

أوقفوا قتل الفقراء والمغلوب على أمرهم في العراق، وهذا واجب الحكومة والعائلة والعشيرة والمسجد والإعلام وكلّ القوى الفاعلة في المجتمع!