العذر الذي هو أقبح من الذنب

2021.12.08 | 05:28 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس ثمة قبح أكثر من تبرير الخطأ أو الجريمة ومحاولة تسويغها أو التماس الأعذار لمرتكبيها.. ذلك أن إيجاد المسوغات يجعل من الفعل - في نظر البعض على الأقل -  فعلا يمكن النظر إليه وقراءته من وجهة نظر مسوغيه وعلى غير حقيقته وأثره.

وليس ثمة قبح أكثر وأخطر من المسوغ الذي بررت فيه محكمة النقض الفرنسية في باريس قرارها الصادر بتاريخ 24 \ 11 \ 2021 الذي قضت فيه بعدم اختصاصها النظر بقضية ضابط مخابرات سوري متهم بارتكابه جرائم ضد الإنسانية ولاجىء في فرنسا حاليا وتبعا لذلك أوقفت محاكمته وأطلقته من حبسه بزعم أن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة المرتكبة في دول ليست طرفا في نظام روما الأساسي المنشىء للمحكمة الجنائية الدولية لا يمكن مساءلة مرتكبيها عنها في فرنسا(!!).

ومنشأ القبح والخطورة في آن، أنه يحوّل فرنسا إلى ملاذ آمن لكل القتلة والمجرمين اللاجئين إليها من دول ليست طرفا في ميثاق روما، ويجعلها قبلة وأرضا مراحا وملاذا متاحا للإفلات من العقاب (!) بل هي دعوة غير مباشرة موجهة لكل القتلة والمجرمين الذين استباحوا حياة الناس وكراماتهم ليركبوا البحر ويتوجهوا إليها ففيها قضاء يضاعف من محنة الضحايا، وفيها حاكم يوفر كل عناصر أمان العيش ورغده للسفلة والمجرمين بينما ترفض مئات ملفات طلبات اللجوء لمن فروا بأرواحهم التماسا للحماية والسكينة.

وكرجل قانون لا أفهم كيف يمكن للقضاء الفرنسي أن يرفض محاسبة مرتكبين لجرائم كبرى بزعم أن بلدهم ليست طرفا في ميثاق روما وأنها لا تجرّم في تشريعاتها الوطنية الأفعال التي توصّف كجرائم ضد الإنسانية (!) إذ لو كانت سوريا طرفا في هذا الميثاق لكان من صلاحية المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن يضع يده على الملف وأن يحرك الدعاوى بحق مثل هؤلاء المتهمين ومن دون قرار حتى من مجلس الأمن الدولي، ولما كان المدعون سيحتاجون أصلا للجوء إلى القضاء الفرنسي أو غيره بحثا عن العدالة.

التهم تتضمن جرائم التعذيب وهي من الجرائم التي يحرص القضاء الفرنسي على اعتبارها من الجرائم التي تقع تحت سلطته في محاسبة مرتكبيها

ثم إن مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي أخذت به فرنسا وتبنته ولو ضمن شروط أكثر تحديدا وتضييقا من غيرها من الدول، يلزمها قبول النظر بالدعوى بصرف النظر عما إذا كانت دولة المتهم طرفا أو ليست طرفا في ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية خصوصا أن التهم تتضمن جرائم التعذيب وهي من الجرائم التي يحرص القضاء الفرنسي على اعتبارها من الجرائم التي تقع تحت سلطته في محاسبة مرتكبيها وبالتالي فإن قرار محكمة النقض الفرنسية في باريس يخالف هذا المنهج ويلغي عمليا تلك الصلاحية، وهذا سبب إضافي لمخاوفنا كحقوقيين من تعزيز وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب خلافا للاتجاه العالمي في هذا المجال.

وكان سبق لفرنسا أصلا أن قبلت النظر في دعوى من أسرة آل دباغ وأصدر المدعي العام في العام 2018 مذكرات اعتقال دولية بحق ثلاثة ضباط في أجهزة المخابرات السورية وهم (علي مملوك وجميل الحسن وعبد السلام محمود) لارتكابهم جرائم التعذيب والقتل بحق فرنسيين من أصل سوري هما الأب وابنه مازن وباتريك دباغ استنادا لمبدأ الولاية القضائية العالمية ولم تثر مسألة أن سوريا ليست من الدول الموقعة على ميثاق روما الأساسي وأن قانونها الوطني لا يجّرم الأفعال المصنفة كجرائم ضد الإنسانية..

إن قرار محكمة النقض الفرنسية الأخير يمكن اعتباره إغلاقا للباب في وجه محاولات السوريين خصوصا والمضطهدين من حكوماتهم عموما

كما أن القضاء الفرنسي نفسه سبق أن قبل دعوى وفق نفس المبدأ قدمها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير بالتعاون مع الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان بحق السوري "مجدي نعمة"  الملقب بـ (إسلام علوش) الذي كان يشغل صفة الناطق الرسمي لجيش الإسلام قبل مغادرته إلى تركيا ومن ثم إلى فرنسا وبالفعل تم اعتقال (علوش) وزج به بالسجن بتهم الخطف والتعذيب الممنهج، ولم ترفض المحكمة الدعوى بزعم أن سوريا ليست طرفا في ميثاق روما الأساسي أو أن قانونها الوطني لا يعتبر الأفعال المصنفة عالميا كجرائم ضد الإنسانية جرائم يمكن المساءلة عنها (؟!!!).

إن قرار محكمة النقض الفرنسية الأخير يمكن اعتباره إغلاقا للباب في وجه محاولات السوريين خصوصا والمضطهدين من حكوماتهم عموما، السعي للإنصاف والعدالة ومساءلة المرتكبين والمنتهكين عن أفعالهم وجرائمهم، وهو رسالة خاطئة ترسلها فرنسا لكل الديكتاتوريات ونظم التسلط والعسف في المنطقة أنكم مهما فعلتم بشعوبكم، فأنتم في بلادنا بمنأى عن المساءلة وستعيشون في رغد وطمأنينة ولن يقلق راحتكم أولئك الغوغاء الناجون من مذابحكم.