العدو أحسن من القيادة الحكيمة

2019.12.23 | 21:41 دمشق

shutterstock_541543768.jpg
+A
حجم الخط
-A

ذكرتُ لحضراتكم، في مقالة سابقة، أن المُخْبِر أبا فستوك جاء إلى الوسط الثقافي/ الأدبي السوري بصفة "شاعر"، متسلحاً بديوانين مطبوعين، الواحدُ منهما يحتوي على ثنتين وثلاثين صفحة من القطع المتوسط.

نَظْمُ أبي فستوك عموديٌّ بالطبع، ومكتظ بعيوب "النظم البدائي"، إضافة إلى كونه يخطئ في الإملاء والعَروض، وتعاني "قَرْزَماتُه" الشعرية من خللٍ في الإيقاع، إضافة إلى الزحافات والإقواء.. ومع ذلك أدخله علي عرسان وجماعتُه، بهذين الديوانين، إلى حِمَى اتحاد الكتاب العرب، وأفلته لـ يُعَجِّقَ - كما يقول المثل - في رزق عباد الله كثور مغتلم..

ذكرتُ لكم، كذلك، أن أبا فستوك سرعان ما أقلع عن نظم الشعر، وتفرغ على نحو نهائي لكتابة التقارير، وقد تَخَيَّلْنَا - نحن الكُتَّابَ الذين كانت تقاريرُه تجعلنا نغدو ونروح إلى فروع الأمن أكثر من سرافيس المعرة - أن أحد المقربين منه سأله عن سبب هجره الشعرَ، فقال بشيء من النَزَقْ والضجر:

- يا أخي الواحدْ بيتْشَقَّفْ؟! الله وكيلَكْ ما عم إفضى أحك رأسي، لو كان عندي عُمْرْ تاني يا دوبْ يكفيني لـ كتابة التقارير!  

الحقيقة أن إقلاع أبي فستوك عن نظم الشعرية ليست أمراً ذا بال، وتنطبق عليه حكاية البرغوث الذي وقف على شير الحصيدة (أو القصيدة)، وسأله: شو رأيك يا شير؟ بحطّ ولا بطيرْ؟ فقال له الشير: والله يا برغوث أفندي أنا ما بحسّ بوجودك لما بتحط، ولا بنتبه لغيابك لما بتطير. يعني: أنت - يا أبا فستوك - وشعرُك، وقوافيك، وعَصُّكَ على نفسك أثناء إلقاء شعرك في الأمسيات، على قفا أحذيتنا (صَرَامينا) العتيقة التي نرتديها في أيام المطر والطين والجَقْجَقَة!

ولكن أبا فستوك بقي يعتاش على ما أنجزه من الأشعار التي سبقت دخوله عالمَي اتحاد الكتاب وفروع الأمن، يشارك بها في أمسيات المراكز الثقافية، وينشر بعضها في صحيفة "الأسبوع الأدبي" مذيلة باسمه مع الصفة الأثيرة لديه (الأديب الشاعر: أبو فستوك).. وكان يشعر بالغيرة، والألم، والحقد عندما يحضر أمسية شعرية يوجد فيها شاعر متميز، مثل "محمد شيخ علي" رحمه الله، وكلما تفاعل الجمهور وصفق للشاعر الجميل كان أبو فستوك يستقتل في محاولته اقتلاعَ الشعرة التي يتوهم وجودها على خده الأيمن، وهذه الحالة النفسية المضطربة ستقوده، في النهاية، إلى أن يكتب تقريراً بحق الشاعر، كائناً من كان، ويسلم التقرير لفرع الأمن العسكري بإدلب (بحسب الاختصاص) وإذا كان الشاعر عضواً في اتحاد الكتاب لا بد أن (يطقّ له برغيّاً) عند علي عقلة عرسان وعضو المكتب التنفيذي ذي العلاقات الواسعة مع الشعب الأمنية المركزية في أول زيارة له دمشقَ..

وإذا كان الشاعر عضواً في اتحاد الكتاب لا بد أن (يطقّ له برغيّاً) عند علي عقلة عرسان وعضو المكتب التنفيذي ذي العلاقات الواسعة مع الشعب الأمنية المركزية في أول زيارة له دمشقَ

غير أن الأمر العامرَ بالطرافة الذي ذكرته في الحديث السابق هو أنه كتب، في إحدى المرات، تقريراً بحق الشاعر الرجعي "فاء حاء" وسلمه لفرع الأمن العسكري بحمص!

إليكم تفاصيل الحكاية.

طبع الشاعرُ "فاء حاء" (الذي صنفه أبو فستوك في خانة "الرجعي") ديوانَه في دمشق، وعمد لأن يضع عليه عدداً لا يستهان به من الموافقات والتواقيع والأختام، من اتحاد الكتاب العرب، وجمعية الشعر في الاتحاد، ووزارة الإعلام، ووزارة الثقافة، ولولا الحياءُ والاستحالةُ لأتى بموافقة من اتحاد الفلاحين!

المضحك في الأمر أن "فاء حاء" ذهب، أثناء الطباعة إلى المطبعة، وطلب من عامل التنضيد والإخراج أن يضع أرقام الموافقات الرقابية وتواريخها على صفحة مستقلة، (فقد لاحظ أنهم "يدحشونها" على الصفحة الخاصة بالناشر وسنة النشر وتصنيف المادة المطبوعة).. فلما ضحك العامل وقال له إن هذا الأمر لا مسوغ له، بقي على عناده وقال له: يا أخي أنت بتعرفْ شي، وأنا بعرفْ شي!..   

عندما بُلِّغ "فاء حاء" بضرورة مراجعة فرع الأمن العسكري بحمص بُهِتَ، وقال لنفسه أمن عسكري؟! أنا أصلاً وحيد لوالديُّ، ومعفى من الخدمة العسكرية، فما علاقة الأمن العسكري بي؟.. وحمص؟! أنا مولود في مدينة إدلب وأمضيت السنوات الأربعين التي عشتها حتى الآن في إدلب، ولا أرى حمصَ إلا حينما يعبرها البولمان أثناء ذهابي إلى دمشق وعودتي منها.. حسناً، إذا كان سبب الاستدعاء سياسياً، فأنا معتاد على ذلك، وكثيراً ما استدعيتُ إلى فرع الأمن السياسي، ولكن في إدلب، فلماذا حمص؟!

عندما بُلِّغ "فاء حاء" بضرورة مراجعة فرع الأمن العسكري بحمص بُهِتَ، وقال لنفسه أمن عسكري؟! أنا أصلاً وحيد لوالديُّ، ومعفى من الخدمة العسكرية، فما علاقة الأمن العسكري بي؟.. وحمص؟!

وبقي المسكين مؤرقاً بهذه الهواجس بضعة أيام حتى أزف موعد اللقاء الرهيب، فذهب، ونزل في كراج البولمان بحمص، واستأجر "تكسي" وطلب من السائق أن يأخذه إلى فرع الأمن العسكري.. وهناك نقعوه، كالعادة، حتى آخر الدوام، إذ يفرغ رئيس قسم التحقيق من أعماله، فاستقبله بوجه قمطرير، وقال له من رأس منخاره: إنْتْ الشاعر فلان؟ قال: نعم سيدي. فقال: الله لا يعطيك العافية فوق تعبك. ومد يده إلى درج مكتبه، وأخرجها، وإذ فيها نسخة من ديوانه الشعري. فتح الضابط الديوان وصار يقرأ عبارة وُضِعَ تحتها خط باللون الأحمر:

وأنت تذهبين إلى حدود البهاء

لا بد من ردعِ الأناملِ

وإنزال البروقْ..

وأنت تقفين على حاجز الكبرياءِ

لا بد من تحية العدو

لأعرفَ أنا

وتعرفين أنت الفروقْ

أراد الشاعر "الرجعي" أن يشرح للمحقق أن على ديوانه درب تبان من الأختام والتواقيع والموافقات، فقال له: اسكوت ولاه.. اسكوت.. شو يعني إذا عليه موافقات؟ بيجوز يكون اللي حطوا لك الموافقة من جماعتك. بتصير ولا ما بتصير؟

قال الشاعر: أي جماعة يا سيدي؟ أصلاً العبارة اللي قريتها حضرتك ما فيها شي. عم نحكي عن الحب..

قال الضابط وهو يقرأ عبارة مدونة بخط اليد على الديوان: عن الحب ما هَيْكي؟ أنت مَ تحكي على الحدود السورية اللبنانية وقوات الردع وحواجز الجيش تبعنا، وعم تطلب من المواطن إنه يتعامل مع الأعداء لحتى يشوف الفروق بعينه.. قصدك إنه العدو أحسن من قيادتنا الحكيمة؟.. على كل حال أنا بفرجيك يا كر. هلق لما الشباب بدهم يكرموك تحت في القبو راح تعرف بالفعل مين أحسن، العدو ولا القيادة الحكيمة!