icon
التغطية الحية

الظاهرة الشعبوية وأبعادها في كتاب "صعود اليمين الشعبوي الأميركي"

2023.03.26 | 18:50 دمشق

اميركا
إسطنبول- متابعات
+A
حجم الخط
-A

"صعود اليمين الشعبوي الأميركي والتأثير في منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية"، كتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، للكاتب مهند حميد مهيدي.

يطرح الكتاب الذي جاء في 304 صفحات تأصيلًا نظريًا للظاهرة الشعبوية، ويجمع بين أبعادها السياسية والاقتصادية، بأسلوب يجعله متناسبًا مع مختلف المستويات الثقافية والأكاديمية، كي يكون معينًا في فهم هذه الظاهرة وتجلياتها، وآفاقها المستقبلية، وتأثير ذلك كله في طبيعة النظم السياسية الغربية، وفي أنماط العلاقات الدولية في تفاعلاتها السياسية والاقتصادية؛ من أجل الحفاظ على العيش المشترك والتعاون المتبادل والمسؤولية الإنسانية، والمحافظة على إيكولوجيا الأرض، وتأمين البيئتين الاقتصادية والاجتماعية للأجيال المقبلة.

مفهوم اليمين في الاقتصاد والاجتماع

يمكن إرجاع الصعود اللافت للشعبوية اليمينية، في العديد من الديمقراطيات الغربية، إلى انعدام "الأمن الاقتصادي" الناجم عن "العولمة"، أو ما اصطلح على تسميته "السباق إلى القاع"؛ إذ يشار إلى أن المضي في حماية اجتماعية أكبر من شأنه أن يقود إلى حماية المجتمع من "التنافر العنصري"، بينما يشير آخرون إلى أن ردة الفعل المعادية للمهاجرين تحرِّكُها "شوفينية الرعاية الاجتماعية"، ذلك أنه من المرجّح أن يرى الأشخاص الذين يتمتعون بالفعل بدرجات عالية من "الرفاه الاجتماعي"، أن المهاجرين يشكلون تهديدًا للنظامين الاقتصادي والاجتماعي القائمين.

يتجه أصحاب اليمين المتطرف إلى منح القضايا الاجتماعية - الثقافية الأولوية، لا سيّما القضايا المتعلقة بـ "الهوية الوطنية"؛ فهم يدعون إلى التدخل في النشاط الاجتماعي للحفاظ على التقاليد، وأنهم يؤمنون بالتفاوت بين البشر، ويعدّونه أمرًا طبيعيًّا. ويرون أيضًا ضرورة لأن تكون هناك طبقة غنية وأخرى فقيرة؛ مبررين ذلك بأن ذوي القدرات المتميزة يصبحون أغنياء، بينما ذوي القدرات المحدودة يصبحون فقراء، معللين بأن الفقر قد يكون حافزًا لكي تنشط الطبقة الفقيرة ومن ثم يصبحون أغنياء.

يعدّ النظام الاقتصادي والسياسات الاقتصادية ملعب الليبرالية المفضل، والمعبِّرَ عن رؤاها، وتذهب أغلب الدراسات والتحليلات التي تعنى بنشأة وتطور "اليمين المحافظ" واليمين المتطرف، إلى أنه ينشط ويطفو على سطح التفاعلات إبّان الأزمات الاقتصادية، وباستفحال ظواهر البطالة والتهميش واللامساواة بين الشمال والجنوب، علاوة على ما باتت تتركه العولمة من تعميقٍ لآثار التفاوت بين المراكز والأطراف تبعًا لمحكومية قوانين النيوليبرالية، وضوابط مشايعة النموذج الرأسمالي القائم على سطوة رأس المال الاحتكاري وتحكُّم "الشركات المتعددة الجنسية"، بدعم القوى الاقتصادية الكبرى (G-7) و"المؤسسات المالية الدولية".

لقد أدى تغوّل "العولمة" وتعمقها إلى مزيد من التفاوت؛ إذ إن حجم التفاوت بين الأقلية الأكثر غنى والفئات الأكثر فقرًا بات يشكّل فجوة تزداد يومًا بعد آخر. وهو الأمر الذي يؤدي إلى اتجاه المهمشين صوب الحركات الأكثر تطرفًا، على وفق رؤية ضحايا النيوليبرالية الذين يعتقدون أنهم يثأرون من النظام الذي أقصاهم، عبر انضمامهم إلى أيديولوجيات تضع بعضهم في مواجهة بعض لمصلحة نظام هو مصدر كل تعاستهم.

اليمين والشعبوية في الاتحاد الأوروبي

صعود النزعات القومية على هذا النحو الملحوظ في أوروبا ولّد آثارًا على مستويين: المستوى الرسمي المرتبط بتلك الانتصارات التي حققتها الأحزاب اليمينية في الانتخابات الأوروبية، والمستوى الشعبي الذي يستبين طبيعة التعامل على مستوى الشارع مع الآخر المختلف، ومدى ترسخ الأفكار القومية في ذهن المواطن الأوروبي، والتي يجري بث الروح فيها من جديد وإعادة تشكيلها عن طريق الجماعات بغية معارضة وجود المهاجرين، يضاف إلى ذلك معدلات جرائم العنف والكراهية التي غالبًا ما تكون بدفعٍ من الجماعات اليمينية المتطرفة.

على المستوى الرسمي، أثبتت نتائج الانتخابات في السنوات 2016–2019 التي أجريت في مختلف دول الاتحاد الأوروبي (السويد، فرنسا، المملكة المتحدة، إيطاليا، النمسا، هولندا، المجر، سويسرا، فنلندا، والدنمارك وغيرها)، صعودًا لتيارات اليمين المتطرف وجماعاته. وهذا يعود إلى حجم التأثير الذي باتت تحظى به أفكار هذه الجماعات وتأثيرها في تشكيل الوعي لدى المواطن الأوروبي، فضلًا عن التأثير في تشكيل رأي عام مؤثر في الفضاء السياسي. فما بين أوائل ثمانينيات القرن العشرين واليوم، سجلت الأحزاب اليمينية المتطرفة في البلدان الأوروبية نموًا انتخابيًا بين 1 و7 في المئة من الاستحواذ على الأصوات، وأصبح لها مقاعد في المجالس التشريعية لمختلف الدول الغربية (منها أستراليا، البرازيل، كندا جمهورية التشيك، الدنمارك، إستونيا، فرنسا، ألمانيا، رومانيا، السويد). ودخل بعضها في حكومات ائتلافية (كما حدث في النمسا، بلجيكا، بلغاريا، تشيلي، فنلندا، اليونان، إيطاليا، لاتفيا، ليتوانيا، هولندا، نيوزيلندا، النرويج، سلوفاكيا، سويسرا).

وفي ما يخص البرلمان الأوروبي، فقد ارتفع عدد ممثلي اليمين المتطرف فيه (أعضاء البرلمان الأوروبي) من 37 إلى 52 بين عامي 2009 و2014. وجرى تشكيل مجموعة يمينية متطرفة في البرلمان الأوروبي، تسمى "أوروبا الأمم والحريات ENL Europe of Nations and Freedoms,"، بقيادة الجبهة الوطنية الفرنسية؛ وهي مجموعة سياسية جرى إطلاقها في 15 حزيران/ يونيو 2015 .وتضم 37 عضوًا من أصل 751 عضوًا، وكانت تخطط للحصول على أصوات أكثر في الانتخابات الأوروبية لعام 2019، تريد منها ممارسة الضغط والتأثير في قرارات المؤسسات الأوروبية، بالتعاون مع أحزاب أخرى قصد مراجعة المبادئ المؤسّسة للاتحاد الأوروبي. ومن الجدير بالذكر أن أقل من نصف البلدان الأعضاء في الاتحاد، البالغ عددها 29 دولة، لديها حزب يميني متطرف في برلماناتها الوطنية.

على المستوى الشعبي: في ظل تزايد حالات الهجرة واللجوء إلى أوروبا، وبالتزامن مع زيادة الأحداث الإرهابية، والتي جرى ربطها بالمهاجرين، ظهرت عدة جماعات شعبية ذات توجهات قومية متطرفة، جعلت من نفسها حامية للمواطنين من خطر القادمين من وراء الحدود المهاجرين.

ولن يقتصر التهديد اليميني على احتمالية تفكيك الاتحاد الأوروبي فحسب، بل على مجمل شكل القارة الأوروبية، وعلى الأنموذج القيمي الذي تقدمه للعالم، في التعددية والتسامح وحرية الأديان وقبول الآخر؛ هذا الأنموذج الذي أضحى هشًّا للغاية، مع تصاعد خطاب الإقصاء على نحوٍ لافت، فضلًا عن سعي القوى اليمينية المتطرفة بصفة إلزامية للتعريف الإثني والعرقي لشعب كل دولة. ومن ثمّ فإن احتمالية وصول اليمين المتطرف إلى السلطة من شأنه إثارة المخاوف في ظل تزايد الهجمات على المجموعات العرقية والإثنية الأخرى؛ ما يولد رد فعل من المهاجرين دفاعًا عن أنفسهم، لتنزلق أوروبا بعد ذلك في هُوة الفوضى التي لا يمكن احتواؤها. وأخيرًا فالنزعة الأوروبية القومية تتغذى يومًا بعد يوم من الموجة العالمية، التي تنحو إلى مزيد مِن التطرّف والانغلاق والشعبوية. وإن كانت أوروبا تحمل إرثًا فاشيًا، ونازيًا، وتوتاليتاريًا (استبداديًا)؛ فالأنظار تتجه إلى الولايات المتحدة الأميركية وتسلّم الشعبوي دونالد ترامب مقاليد الحكم فيها، والذي بنجاحه صار أنموذجًا جذابًا لكثير من سياسيي الدول وأحزابها، سواء في أقصى اليمين أو أقصى اليسار، بالذهاب في مواقف متطرّفة. وتكاد تتطابق أحاديث زعماء اليمين المتطرف الأوروبي وكلماتهم مع مضامين خطابات ترامب، وتتزايد معها المخاوف من أن يتكرر سيناريو الانتخابات الأميركية في أكثر من دولة أوروبية.

شيخوخة الرأسمالية المعاصرة

في ظل سيادة الرأسمالية المعاصرة (الرأسمالية النيوليبرالية) التي قضت بدورها على النظام الاقتصادي الكينزي، ندرك أن ما طرحه منظّرو النيوليبرالية لم يتحقق؛ فبعد أن وعدوا بأن نظامهم سيحقق نموًا كبيرًا في الادخار والاستثمار، ويؤدي إلى نمو اقتصادي من شأنه تحقيق الرفاه لكل المجتمع، أصبح هذا الأمر بعيد المنال.

إن سعي اليمين الشعبوي الأميركي لتقويض العولمة، والتي هي جزء أساس من مفاعيل عمل النظام الاقتصادي الرأسمالي، يشير بصفة جلية إلى أن الرأسمالية الأميركية تعتمد على قدرتها الفائقة في التكيف والتطور، وكذلك الانتقال من طور لآخر في إطار سيرورتها المرتبطة بقدرة نمط إنتاجها على المزيد من التوسع وتقليل الأرباح؛ ما يشي بتأسيس حالة يجري فيها تخطي الرأسمالية الحالية إلى حالة أخرى أقل ما يمكن توصف به أنها مرحلة ما بعد الرأسمالية.

في ما يخص مستقبل الرأسمالية الأميركية، فالصورة قد تكون أكثر ضبابية، في ظل اقتصاد المعرفة الذي أصبحت معه المعلومة ماكنة لديها القدرة على سحق مستويات الأسعار، وتخفيض وقت العمل اللازم لإنتاج السلعة، لتتحول الوظائف في جُلها إلى "وقتية". ولعل هذا يتداخل مع ما طرحه إنغلز عن "العامل المهندس"، وتلاشي نفوذ ذوي الياقات الزرق، مقابل تنامي نفوذ ذوي الياقات البيض، متلازمًا مع الرؤية ذاتها التي طرحها كارل ماركس، حينما بيّن أنّ "الآلات ستؤدي الدور الأساس في الإنتاج مستقبلًا في الوقت الذي سيكون الإنسان ممارسًا دور الإشراف والمراقبة"، في إشارة إلى أنّ العلم والمعلومة، هما اللذان سيحكمان اقتصاد المستقبل وليس العمل.

الشكل الجديد للرأسمالية، التي يُراد لها أن تكون حاضنةً لعالم المعلومات والمعرفة، يُعدُّ مختلفًا عن أشكال الرأسماليات السابقة، بأنواعها المتعددة (التجارية، والصناعية، والمالية)، لصعوبة توظيف "الديناميات" التي تستند إليها الرأسمالية "المعرفية". ومن المستبعد أن يتشكل طور خامس جديد للرأسمالية؛ لأسباب تكمن في بنية تكنولوجيا المعلومات التي لا تجسد تناغمًا مع سيرورة الرأسمالية الكلاسيكية وتوجهاتها.

وتبعًا لذلك، فإن قانون القيمة هو الآخر سيتغير حتمًا، سواء بصيغته الماركسية القيمية (عمل)، أو بصيغته الرأسمالية التي تجعل من الأجور أشبه ما تكون بالبواقي (قانون الأجر الحديد). ومن المتوقع ألا يُعدّ مقبولًا التسليم بفكرة "الاقتصاد الحر"، والملكية الفكرية؛ لكون التوجه صوب الاستخدام الأمثل للمعلومات يستلزم عدم وجود سوق حرة أو حقوق ملكية فكرية. وتعمل الشركات الرأسمالية الكبرى العاملة في مجال الفضاء الرقمي على عدم إتاحة المعلومات؛ لأن التكلفة الحدية لإعادة إنتاج المعلومة تقترب من الصفر.

إن ما يحدث للرأسمالية الأميركية الآن ما هو إلا محاولة إضفاء لمسة اشتراكية عليها، بغية الحد من جشعها، ولا سيّما ما يتعلق بفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، والسعي لتحسين منظومة التعليم وكذلك دعم الجامعات.

وعلى الرغم من كل ما سلف، تظل الرأسمالية رهينة لمنطقها الخاص، الذي لا يمكنها أن تخرج عن إطاره العام، والمتعكز على تحقيق التراكم وإطلاق يد الشركات؛ لذا فإن ما مرّت به الرأسمالية من حالات مدّ وجزر في تطبيقها العملي (التدخل الحكومي على سبيل المثال)، يُعزز من الرأي القائل إن الحكومات (الإدارات) أداة طيّعة بيد الرأسمالية، وما هي إلا "سكرتارية رجال الأعمال" كما يزعم آدم سميث.