الطيب والجميلة والشرير

2020.05.13 | 00:01 دمشق

nzar_wjyjy_wmkhlwf.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن العالم العربي أشد فوضى وتشتتاً وعبثيةً مما هو عليه حاله اليوم، أغلب المجتمعات العربية في حالة اقتتال دائم، عسكري وإعلامي واقتصادي وسوسيولوجي، الأنياب تنشب ضد بعضهم البعض بشكل عجيب، والضرب لم يتوقف على الأعمال العسكرية إنما امتد ليصل إلى التنابذ بقصص نساء البلاد، وما يسمونه فضائح جنسية، وهو أمر جديد في التقاذف والتراشق الإعلامي العربي، امتد الأمر ليشمل رجالات وأعلام البلدان وأحياناً رموزها التاريخية، من طه حسين إلى صلاح الدين الأيوبي، ومن عبد القادر الجزائري إلى ابن ماجد، مروراً بقادة منظمة التحرير الفلسطينية وجمال عبد الناصر ومعظم رؤساء ما سمي بأنظمة التقدم العربي التي بنت بحق أقانيم من التخلف العربي، وهو أمر جيد كما أعتقد إذا ما درس بشكل صحيح، فنزع القدسية عن الأشخاص وإتاحتهم أمام الفضاء البحثي لدراسة تاريخهم ومسيرتهم وقرارتهم وهل أصابوا أم ارتكبوا الأغلاط.

هو أمر تحتاجه جميع الأمم لا سيما الأمة العربية، أمة الرعب والتقديس وثقافة العيب والمنع والتحريم، ولكن لا تشمل حرية التعبير تلك الإساءة بالشتم لشعراء كبار مثلاً، لمجرد أن شعرهم لا يعجب البعض، وأقصد في هذه الحالة الحملة الممنهجة التي يتعرض لها شاعر بقامة نزار قباني، أنا لست من معجبي نزار الكبار المهووسين به، مع أني أتذوق شعره جيداً، لكنني أجد من العيب شتم الرجل بأقذع العبارات فقط لأن شعره بسيط وغير معقد كفاية، أو بأن صوره الشعرية بسيطة، أو بأنه شاعر غزل ومجون.. أو أنه لم يحترم المرأة كفاية، وكفى بمنتقديه قراءة أشعار لوركا وأراغون ومالارميه وحتى شكسبير.. لنكتشف أننا أمام رأس جبل الجليد، في الموقف من نزار قباني، ولسنا في مواجهة أشعاره فقط.

ليبدو الأمر وكأنه تصفية حسابات سنوية يشنها البعض ضد نزار قباني في ذكرى وفاته، تستند إلى ثلاثة شائعات، الأولى مدحه للأسد، والثانية رثاءه لابنه البكر باسل، والثالثة تكون دائماً لدى من يريد أن يحسم النقاش فيدعي أنه لا يطيق شعر نزار، ويقارنه بشعراء آخرين مثل درويش أو السياب، وأنا أجزم أنهم لم يقرؤوا أشعار نزار أو درويش إلا المتداول في الصحف والتلفزيونات، خطاب تسليع وتنميط ينتشر ليس في زمننا الحالي وإنما يريده البعض أن يعود بحركة رجعية إلى الخلف ليشمل من استطاعوا النجاة من زمن الثقافة المقنعة بالفاست فوود...

موقف البعض من نزار هو إحدى الخصال السورية بامتياز، تلك التي تبيح الضرب تحت الحزام على أنه نقد

موقف البعض من نزار هو إحدى الخصال السورية بامتياز، تلك التي تبيح الضرب تحت الحزام على أنه نقد، وتستطيب تهديم القامات الشعرية والفكرية وحتى السياسية (المعارضة)، بدعوى النقد الذاتي والحرية، وأنا أدعو هنا للتنبه لقواعد نزع القدسية عن الأشخاص، والتعامل بحد أدنى من الاحترام فيما يخص تفكيك التابوهات، "إن كان نزار تابوهاً لأحد". وليس نزار إلا شاعرا ومثقفا سوريا محترما، واجه مجتمعنا القاسي بقوة وعزيمة وقاتل لفرض أفكاره ضد من يخلط الدين بالدولة، وضد السلطة السياسية الفاسدة، وضد التخلف الاجتماعي، وحاز على شعبية منقطعة النظير لدى جيل الستينيات والسبعينيات، وحتى اليوم تقريباً، ربما البعض من منتقديه يودون أن يحظوا بشرف الاختلاف عن طريق رفضه، رغم أن التيار العام يستطيب شعره، وليس هناك أي عيب في أن يتفق الشعب على شاعر، كما هو الحال في روسيا بوشكين، أو فرنسا بودلير، أو إسبانيا لوركا.. ولكنها سوريا العبثية يا سادة..

في مقلب آخر، انفجرت وسائل التواصل الاجتماعي التي تعيش في أيامنا هذه ازدهاراً كبيراً، لدرجة باتت تمنح الثقة والشجاعة لعشرات الآلاف بل لنقل للملايين من البشر كي يدلوا بدلوهم في قضايا يغرقون أنفسهم فيها من حيث يدرون أو لا يدرون.. ومن ذلك مثال الموقف العربي لرواد وسائل التواصل حول إعلان جيجي حديد خبر حملها من صديقها الموسيقي الباكستاني زين مالك، وجيجي حديد لمن لا يعرفها هي عارضة أزياء شهيرة جداً، أميركية - فلسطينية الأصل، شكلت برفقة شقيقتها وعائلتها الفلسطينية الأميركية حالة نادرة كنموذج عن المرأة العربية في الغرب، تلك التي لا تشبه أنساق التنميط الغربي المتداولة إعلامياً حول المرأة العربية..

ولكن المفاجأة كانت بانقلاب ملايين المتابعين من أنصارها وخصوصاً من الفلسطينين ضدها، لأنها حملت خارج إطار الزواج، وبات تعميم التطابق بين شخصيتها والقضية الفلسطينية شأن كل من يريد أن يطعن بالقضية الفلسطينية، بعد أن تخلى أنصارها على وسائل التواصل الاجتماعي عنها، طبعاً أنا أعني أنصارها العرب، وليس الأوروبيين والأميركان، ومن هنا انهالت الشتائم عليها، وانهال التخوين والربط السياسي بمعنى أنها باعت فلسطين، وفلسطين تباع بسبب أمثالها.. عشرات آلاف التعليقات الفارغة من محتواها والمملوءة بالكراهية والبغض والعجز والإحباط، حشود مختبأة خلف منصات وهمية تنقاد وراء الدعاية لفتاة جميلة اسمها جيجي، وما إن يستشعرون خطراً على سكونهم وسكونيتهم البائسة منها، حتى تراهم ينقلبون ضدها، وكأنها تعبأ بهم، وبرأيهم.. ولكن المصيبة تكمن في ربط القضية الفلسطينية بأفعال الأفراد، وهذا الربط يقوم به الطرفان، بعض من الطرف الفلسطيني الذي يستنكر انتماء جيجي له، وكأن الانتماء لفلسطين هو حكر على المحافظين والمتدينين، والطرف الآخر الذي يريد أن ينتقص من قيمة القضية باعتبار أن الحرية الفردية هي الوبال الذي يعاقب عليه الشعب الفلسطيني.

ومن تداعيات تلك الفوضى عدم إدراكهم لضرورة احترام حرية التعبير والرأي واحترام الخيارات الفردية للإنسان، وكأن الجنسية السابقة للفتاة هي سلسلة حديدية تقيد قدمها، دون أن تجد سبيلاً لفك تلك السلسلة مدى حياتها، ولتبقى أسيرة مجتمعات تريد على الدوام سحبها إلى هوة مستنقعها وتقاليدها وعاداتها، ثنائية لا فكاك منها، نحن نفخر بك وبكونك عربية ولكن يجب عليك أن تعيشي كما نعيش نحن، معاناة أعتقد أن محمد صلاح و رامي مالك قد عاشوها سابقاً..

في مشهد آخر، يطل ابن خالة الرئيس السوري، رامي مخلوف، في فيديو سجله وقام ببثه على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يشتكي من ظلم وقع عليه من قبل أطراف خفية تريد سرقة ماله، الذي يريد هو توزيعه على فقراء سوريا، وهو يحلف بالله ويقسم بأغلظ الأيمان بأنه يريد برفقة الرئيس نصرة فقراء سوريا.

يندرج هذا البث المباشر ضمن مساحات حرية التعبير التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، للجميع، وكيف أن من يستغلها يريد التسلق على شعبوية هذه الوسائل من أجل تحقيق أهداف سياسية مجدداً، فرامي مخلوف لم يرد أن يرسل رسالة عبر الإعلام، بل كانت الرسالة هي ظهوره على وسائل التواصل، أي قدرته على مخاطبة الجمهور السوري مباشرة، ودون وسيط تلفزيوني كالمتعارف عليه سابقاً، وهو في شعبويته يسير على خطا ترامب في تجاوز وسائل التواصل والذهاب مباشرة نحو الناس، إذ إنه يشكو لمن سماهم (فقراء سوريا) من يحاول سرقة أمواله التي يريد صرفها عليهم، عبثية ما بعدها عبثية، فرامي مخلوف يفترض جهل الناس بمصادر ثروته التي أرجعها إلى الله: (الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء).. وزاد الأمر حتى ظهوره الجديد في إصداره الثاني وهو يستخدم كلمات كانت لفترة قريبة غير موجودة في قاموس الموالاة السوري، كلمات محرمة تماماً من مثل: "الرئيس مؤتمن على الدستور، حماية الملكية الفردية، الاحتكام إلى القانون.." كل هذا العبث يجري، صراع بين أطراف تتقاسم سوريا، بينما الشعب، كل الشعب بموالاته ومعارضته، يتفرج على المشهد العام وكأنه مسرحية عبثية سيئة الصنع..