
منذ أن قرر نظام الأسد المخلوع مواجهة مطالب السوريين بالحديد والنار، تحولت حياة الملايين داخل البلاد إلى كابوس يطاردهم في كل زاوية من وطنهم، ومع اشتداد القمع وتزايد القتل والاعتقال، لم يجد كثيرون بديلاً سوى الفرار من سوريا، حاملين أطفالهم وأحلامهم، بحثاً عن ملاذ آمن يحمي حياتهم ويصون كرامتهم، وفي سنوات الثورة الأولى، فتحت تركيا، الجارة الشمالية لسوريا، أبوابها أمامهم بشكل شبه كامل.
مع مرور السنوات، لم تعد رحلة الوصول إلى تركيا سهلة، دفع السوريون مبالغ طائلة وتحملوا مشقة العبور عبر الجبال والسهول، مجازفين بحياتهم للوصول إلى بر الأمان، تسلقوا الجدران الحدودية، ساروا لعشرات وربما مئات الكيلومترات، وتحدوا خطر الموت من أجل بداية جديدة.
واليوم، مع تبدل المشهد السياسي في سوريا وسقوط الأسد، يعود السوريون إلى وطنهم بملء إرادتهم، المشاهد على المعابر الحدودية تعكس رغبة جماعية في طي صفحة الماضي وبدء حياة جديدة عنوانها "إعمار سوريا بلا أسد". يسلّم السوريون وثائقهم للسلطات الحدودية ويأملون في بناء وطن يليق بأحلامهم وتضحياتهم.
في العودة طموح وآمال، لكنها محفوفة بالمخاوف والتحديات، فالسوريون يعلمون أن الطريق إلى سوريا الجديدة مليء بالصعاب، لكنهم يدركون أن مستقبلهم لن يُبنى إلا بسواعدهم. فهم لا يعودون فقط إلى وطنهم، بل إلى أحلامهم التي تركوها خلفهم، إلى بيوت تهدمت وذكريات لم تُمحَ.
عودة السوريين من تركيا.. تفاصيل وأرقام
شهد معبر باب السلامة الحدودي مع تركيا تزايداً ملحوظاً في أعداد السوريين العائدين إلى بلادهم طوعاً، بالتزامن مع عودة السوريين أيضاً إلى البلاد عبر منافذ ومعابر حدودية مختلفة، منها باب الهوى بريف إدلب الشمالي.
زار موقع تلفزيون سوريا معبر باب السلامة واطلع على إجراءات العودة، وأفادت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية بأن عدد السوريين العائدين من تركيا إلى سوريا عبر باب السلامة فقط خلال شهر كانون الثاني الحالي بلغ نحو 8000 شخص.
وأشارت الهيئة في تصريح خاص لموقع تلفزيون سوريا إلى أن هذه العودة تأتي في إطار حركة أكبر بدأت منذ سقوط نظام الأسد، إذ تشير الإحصائيات إلى أن نحو 17000 سوري عادوا إلى وطنهم حتى الآن عبر المعبر المذكور.
ولفتت إلى أن العائدين عبر معبر السلامة يخضعون لإجراءات تنظيمية تهدف إلى تسهيل عودتهم وضمان سلامة العملية، وتشمل هذه الإجراءات تدقيق الوثائق والمستندات للتحقق من هوية العائدين وتبعيتهم للجمهورية العربية السورية، كما يتم تسجيلهم بشكل رسمي وتقديم كافة التسهيلات الممكنة لضمان عودتهم بأمان وسلاسة.
وفي وقت سابق، ذكر وزير التجارة التركي، عمر بولات، أن نحو 40 ألف سوري عادوا إلى بلادهم خلال كانون الأول 2024 عبر المعابر التركية، مضيفاً أن هذا الرقم شمل 27,941 شخصاً عبروا من معابر "جيلوه غوزو" (باب الهوى)، و"زيتون دالي" (باب السلامة)، و"يايلاداغي" (كسب) في هاتاي، بالإضافة إلى آخرين عادوا عبر معابر حدودية أخرى.
وفي أواخر العام الماضي، ذكر وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، أن عدد السوريين المقيمين في تركيا تحت "الحماية المؤقتة" يبلغ مليونين و920 ألفاً و119 شخصاً، مشيراً إلى عودة 25 ألف سوري إلى بلادهم بشكل طوعي وآمن خلال 15 يوماً.
بدوره، أعلن المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، السبت الماضي، أن نحو 200 ألف لاجئ سوري عادوا إلى بلادهم منذ بداية كانون الأول 2024، على خلفية سقوط نظام بشار.
تحديات في وجه العائدين
مع تصاعد أعداد السوريين العائدين عبر مختلف المعابر الحدودية، تتجدد الآمال في استعادة الاستقرار وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب، يطمح العائدون إلى المساهمة في إعمار وطنهم وبدء حياة جديدة تعكس تطلعاتهم لمستقبل أفضل، لكن هذه الآمال لا تخلو من التحديات.
تواجه البلاد تحديات ضخمة تحول دون تحقيق هذه الآمال بسهولة، لعل أبرزها البنية التحتية المدمرة، إذ إن معظم المدن والقرى السورية تعاني من دمار واسع طال الطرق، شبكات المياه، الكهرباء، والمدارس، وإعادة بناء هذه المرافق يحتاج إلى سنوات من العمل وميزانيات ضخمة.
كذلك يعاني الاقتصاد السوري من انهيار شبه كامل؛ العملة المحلية فقدت كثيراً من قيمتها، والبطالة تضرب معظم القطاعات، إضافة إلى ذلك، تعاني الخدمات الصحية والتعليمية من نقص حاد في الموارد، مما يشكل عقبة أمام تأمين حياة كريمة للعائدين.
من جهة أخرى، قد تؤثر فترة اللجوء الطويلة على سبل اندماج العائدين إلى سوريا مع السكان المحليين، لا سيما أن عدداً كبيراً من الأطفال السوريين وُلدوا في تركيا ولا يعرفون شيئاً عن بلدهم إلا اسمها.
الاندماج في المجتمع المحلي
بهذا الخصوص، قالت مديرة الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري، كندة حواصلي، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إنّ عدة عوامل تؤثر على السوريين في المهجر عند عودتهم إلى مجتمعاتهم المحلية، وقد تكون هذه العوامل عائقاً أمام العودة، لكنها لا تمنعهم من الزيارة، فكثير من السوريين في أوروبا وتركيا سافروا إلى سوريا لاستكشاف الأوضاع لاتخاذ القرار النهائي بالعودة أو عدمها.
وأوضحت حواصلي أن معظم المشكلات الاجتماعية التي تواجه العائدين ذات طابع اقتصادي، فاقتصاد البلد المدمر يجعل محاولة التأقلم مع غياب الخدمات مشكلة بحد ذاتها، لا سيما مع انقطاع الكهرباء لساعات طويلة وشح المياه ووسائل التدفئة، والمشكلة الأكبر تكمن في أن منازل العائدين مدمرة أو مباعة لأشخاص آخرين.
وأشارت حواصلي إلى أزمات يعاني منها قطاعا التعليم والصحة في سوريا، ما يشكل تحدياً آخر، مضيفة أن جودة التعليم منخفضة، في حين أن معدات المستشفيات قديمة وبعضها لا يعمل، كما أن الخبرات شحيحة بسبب هجرة معظم الأطباء والكفاءات من البلاد خلال السنوات الماضية.
آليات تبديد المعوقات
معالجة التحديات التي تواجه العائدين إلى سوريا تتطلب مجموعة من الخطوات والإجراءات على المستويين المحلي والدولي.
وقالت حواصلي إن الأولوية الآن تدور حول تحريك عجلة الاقتصاد، ويتم ذلك عبر تطوير البنية التحتية وتحسين وضع الطرقات، وإصلاح شبكات الكهرباء والإنترنت.
وترى حواصلي أنه بمجرد تحسن البنية التحتية والإنترنت والكهرباء، سيتم جذب الاستثمارات سواء الدولية أو من قبل السوريين المغتربين، بالتوازي مع ذلك، يجب العمل على تفكيك المخيمات وإعادة النازحين إلى منازلهم بعد إعمارها من جديد، مع ضمان الأمن وحفظ الهوية الوطنية.
ومن المهم إطلاق مشاريع اقتصادية صغيرة ومتوسطة، وتقديم دعم حكومي أو دولي للعائدين أو السوريين بشكل عام لإنشاء مشاريع توفر فرص عمل محلية، كما يجب العمل على جذب رؤوس الأموال المحلية والدولية عبر منح تسهيلات وإعفاءات ضريبية لاستثمار القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة والصناعة.
رسالة من أحد العائدين
من جهته، أشار أحمد الحسن (39 عاماً)، وهو أحد السوريين العائدين طوعاً من تركيا عبر معبر السلامة، إلى أهمية دور العائدين في المرحلة القادمة، موجهاً رسالة للحكومة الجديدة قائلاً: "عدنا إلى سوريا ليس فقط لأننا نريد أن نعيش على أرضنا، بل لأننا نؤمن بقدرتنا على المساهمة في إعادة بناء هذا البلد، الكثير من العائدين يحملون خبرات اكتسبوها خلال سنوات اللجوء، سواء في مجالات التعليم أو الصناعة أو الزراعة أو حتى الإدارة، الحكومة الجديدة يجب أن تستفيد من هذه الطاقات، وألا تهمل العائدين، فهم من الثائرين الذين رفضوا نظام بشار الأسد، وحاربوا الظلم بطرقهم المختلفة".
وأضاف الحسن: "نحن نحتاج حكومة تدرك أننا شركاء في بناء مستقبل سوريا، وليس مجرد أرقام تُسجل على المعابر، على الحكومة أن تضع خططاً واضحة تضمن إشراكنا في إعادة الإعمار، سواء من خلال توفير فرص عمل أو دعم المشاريع الصغيرة التي يمكن أن تعيد الحياة للمجتمعات المحلية".
يتفق الجميع على أن مستقبل سوريا يعتمد على قدرتها على الاستفادة من طاقات أبنائها وخبراتهم التي اكتسبوها خلال سنوات الغربة لإعادة البناء وترميم ما دمره الأسد، فالسوريون اليوم أمام فرصة تاريخية للنهوض بوطنهم، مؤمنين أن الطريق، وإن كان طويلاً، يستحق كل التضحيات.