قرَّشَ عمّار المَكْرُماتِ الثلاثَ – فهو أحد أبناء المحافظات النامية ورفيقٌ شبيبيٌّ ومَظليٌّ – مع مجموع درجاته المستحَقِّ بجهوده المدرسية، فارتفعت آماله في الالتحاق بكلية الطب، وابنُ جارتهم الفَنْصَة ليس أفضل منه! ولمَّا أُعلِنت نتائج المفاضلة، هبط عمّار فعلاً بالمظلة إلى كلية الطب. أقيمت الأفراحُ وذُبحت الذبائح ودُعي الجيران إلى وليمة عظيمة – بمن فيهم الفَنْصَة التي لا يُحبها أهله لأن ابنها حسام طبيب، بل أستاذ في كلية الطب بجامعة حلب.
كان عمّار قد رَسَبَ في البكالوريا العلمية دورتين متتاليتين، وفي الثالثة نجح بمجموع لا يؤهله إلا لدراسة بعض التخصصات التي ليس لها "هيبة" في الدولة والمجتمع. ولكن الرفيق عمّار كان قد اتبَّع دورة إنزال مَظلي بعد رسوبه في الدورة الأولى، وكان القائد رِفْعات – كما كان يُعرف شعبيًا قبل أن يصبح أولَ المغضوب عليهم لاحقًا – قد أفاض دِنانَ كرمه على هؤلاء المساكين المتعثرين، فمنحهم 80 درجةً إضافيةً، مكافأةً لهم على هبوطهم بالمظلة. ألم يُخاطروا بزهرة شبابهم من أجل الوطن وقائد الوطن وعائلة قائد الوطن؟
***
اغتمَّ عمّار كثيرًا حين اكتشف بعد سنوات من التعثر في الكلية أن ابن الفَنْصَة هو من سيدرِّسه مادة التشريح. وفي أول محاضرة جمع البروفيسور حسام الطلاب والطالبات حول جثة رجل وُجِد مرميًا في البادية ولا يحمل أي أوراق رسمية تُساعد على معرفة أهله. قال البروفيسور حسام لطلابه إن أول شيء يجب أن يتحلى به الطبيب هو السرعة ودقة الملاحظة. وبسرعة البرق أدخل أصبعه في أنف القتيل وبالسرعة ذاتها وضعها في فمه هو. شعر الطلاب – ولا سيما الطالبات – بالقرف من هذه الحركة. فقال لهم أستاذهم: "قلت لكم للتو إن أهم ما يجب أن يتحلى به الطبيب هو السرعة ودقة الملاحظة. وأنتم لم تلحظوا أنني وضعت سبابتي في فم الجثة، ولكنها لم تكن ما أدخلتُ في فمي. إنما أدخلتُ إبهامي. في المرة القادمة، عليكم الانتباه جيدًا!" ثم غسل يديه بالمعقِّم.
أُعجِب الطلاب بذكاء أستاذهم وخفَّة يده. حتى عمّار خفَّ حقده عليه، بل لم يعد يناديه ابن الفَنْصَة – حتى في سره! ثم أقسم أنه لو ابتسم له الزمان يومًا، لفعل أكثر مما فعل البروفيسور حسام. لكن هيهات أن يصبح معيدًا في الكلية، مع أنه أعاد كل مادة على الأقل مرتين أو ثلاثًا، وظل معدله منخفضًا لا يصلح حتى لخطة الخمسة آلاف معيد. تخرج زملاء عمّار، وفتحوا عياداتٍ، أو أسسوا شراكاتٍ لفتح مستشفياتٍ خاصةٍ، وعمّار قابعٌ في الكلية مثل كنبة قديمة رماها أهلها في القبو.
***
وبعد عمر مديد تخرج الدكتور عمّار – في الحقيقة، كان أهله وجيرانه ينادونه الدكتور عمّار منذ أن هبط إلى كلية الطب بالمظلة في مطلع سنته الجامعية الأولى، وكانت أمه تغضب من الجارات – ولا سيما من الفَنْصَة – إذا سألنها عن أحوال عمّار – هكذا حافّ! كانت أخبار إخفاقه المتكرر قد تسربت للقاصي والداني، وبدأ المعجبون ينفضُّون عنه. وعامًا بعد عامٍ تناقص أيضًا عددُ المُسلِّمين عليه إذا جاء لزيارة بلدته وأهله. حتى ابنةُ عمه وردة – التي حيَّرها له أبوه منذ أن نجحت في الصف التاسع – لم تعد راغبةً في الزواج منه بعد تأخره في التخرج كل هذه السنوات. فلا هو تركها تُكمل دراستها مثل زميلاتها الطموحات، ولا تركها تتزوج كالبقية.
حتى عدد الذبائح التي ذبحها أبوه بهذه المناسبة كان أقل بكثير من تلك التي ذبحها يوم قُبِل في كلية الطب بمكرمة من القائد رِفعات. كان القصَّاب يذبح الخراف ويسلخها ويقطِّعها بسرعة نالت إعجاب الدكتور عمّار – بل خطر بباله أن هذا القَصَّاب كان يمكن أن يكون جَرّاحًا بارعًا لو أُتيحت له الفرصة لتشريح البشر كما يشرِّح الذبائح. لا، لا، معاذ الله. ما هذا الخاطر الآثم؟ ولما قدَّموا للقصَّاب التيسَ الوحيدَ من بين الذبائح – البقية كانت خِرافًا – قال الدكتور عمّار للقصَّاب: "أريد أن أُري هؤلاء الأولاد تجربةً تعلمناها في كلية الطب، لعل منهم من يلتحق بها يومًا، وأريدهم أن ينتفعوا من خبرتي الطويلة." سأله القصَّاب:
- وما المطلوب مني أنا؟
- أريدك أن تذبح التيس وتسلخه فقط، وألا تُقطِّعه إلا بعد أن أُجري تجربتي أمام أبناء المستقبَل هؤلاء.
- ولكن، يا دكتور، أنا مستعجل.
- لن يستغرق الأمر أكثر من دقيقة، صدِّقني.
كان هناك صِبْيَةٌ – ورجالٌ أيضًا – يأكلهم الفضول لرؤية أعجوبة الدكتور عمّار الطبية. الآن، يا ابن الفَنْصَة، ستعلم أنك لستَ فريدَ عصرك. سأُثْبِت لك، أنا الدكتور عمّار، بحضور هؤلاء الشهود ماذا بإمكاني أن أفعل. ثم تنحنح وقال: "إن أول شيء يجب أن يتحلى به الطبيب هو السرعة ودقة الملاحظة. واليوم سأعطيكم درسًا في التشريح. طبعًا، كنا في الكلية نُجري التشريح على جُثث بشرية، لكن لا بأس من استخدام هذا التيس بديلاً. لذلك راقِبوا سرعتي وكونوا دقيقي الملاحظة."
ألم يُقسِم يومًا أنه سيفعل أكثر مما فعل ابن الفَنْصَة؟ أيكتفي بإدخال سبابته في أنف التيس؟ لا، لا، هذه حركات عفا عليها الزمن. وبسرعة البرق أدخل أصبعه الوسطى في إست التيس المذبوح المستلقي بلا حياء على دَكَّة القصاب، فصاح المجتمعون استنكارًا وقَرَفًا قبل أن يُدْخِل أصبعه النظيفة في فمه، لكن هياج الجمهور المستنكِر أربكه (كان يتوقع تأوهات الإعجاب)، وبدلاً من أن يُدْخِل سبابته النظيفة في فمه، أدخل الوسطى. لم يدرك إلا بعد فوات الأوان أنه اغترف أيضًا بقيةً من بَعْرٍ طري (ظلت حُلَيْمات الذوق في لسانه سليمة على الرغم من تدخينه الشَّرِه). هاج الجمهور أكثر، وتعالت صيحات الاستهجان، وأقسم الناس جميعًا – حتى المحتاجون والفقراء – ألَّا يأكلوا من مأدبة دكتور التيوس. ولما لم يبق أحد من المدعوين، أقسم أبوه أن يرمي الذبائح للكلاب.
كانت وردة تراقب ما يجري من شرفة بيت أهلها، ولما انفضَّ الناس عن خطيبها الذليل، سكبت عليه سطلاً من الماء البارد ورمت له خاتم الخطوبة وهي تقول: "لو انقطع جنسُ الرجال!"