الطائفية القاتلة

2019.08.28 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

من الصعب إن لم يكن من المستحيل بالنسبة للسوريين اليوم أن لا يقوموا بتفسير كل ما يجري في سوريا، وتقييم الشخصيات الفاعلة في المشهد السياسي فيها من دون خلفية طائفية، أو وضع الانتماء الطائفي كتفسير رئيسي للأحداث في سوريا اليوم.

فالقصف بالبراميل المتفجرة التي تعكس وحشية لا مثيل لها في عالمنا المعاصر اليوم، حيث يعرف الطيار أن كل ضحاياه من المدنيين أطفالا ونساء، ولذلك يوقن السوريون أن كل هؤلاء القتلة لا بد أنهم ينتمون إلى الطائفة العلوية، فإذا ما ظهر اسم غير علوي في القائمة فإنه يعتبر خائنا لطائفته في البداية التي تتعرض للقتل وثانيا مجرما، وتفيض صفحات الفيسبوك والتواصل الاجتماعي بقصص وتفسيرات تبرز هذا الانتماء وتعلله.

لا بد من التأكيد أن في هذا التفسير وللأسف الكثير من الصحة فالإحصاءات

أصبحت سياسة الهوية الطائفية هي التي تحدد الانتماء، ومعه غابت القيم والأخلاق الضرورية والأهم حكم القانون الذي يعاقب على الفعل وليس على الانتماء

العلمية المتوافرة تؤكد أن 98 بالمئة من الطيارين القتلة ينتمون إلى الطائفة العلوية، وهم يفتخرون بذلك على صفحاتهم على الفيس بوك.

بالمقابل ينحصر الانتماء إلى داعش على الطائفة السنية التي من الصعب أن تسمح لغير "السني" بالانضمام إلى طائفتها المنصورة، وبهذا أصبحت سياسة الهوية الطائفية هي التي تحدد الانتماء، ومعه غابت القيم والأخلاق الضرورية والأهم حكم القانون الذي يعاقب على الفعل وليس على الانتماء بحكم غياب دور القانون كليا في سوريا منذ استلام حزب البعث السلطة عام 1963.

الطائفية ليست بجديدة على المجتمع السوري لكنها تحولت بعد الحرب الذي يخوضها الأسد ضد الشعب السوري بوصفها العامل الوحيد والمحدد للانتماء إلى النظام أو المعارضة، وقد لعب اعتماد الأسد على العلويين كمصدر ومورد رئيسي للشبيحة، وفي تحويلهم إلى خزان لا ينضب من القتلة المأجورين ومن موزعي الحقد الذي لا حدود له على صفحاتهم على الفيسبوك، نجح في تحويل العامل الطائفي إلى الفاعل الرئيسي لتفسير الأحداث في سوريا اليوم.

لقد استطاع نظام الأسد تدريجيا تحويل الثورة السلمية إلى حرب أهلية طاحنة، كما وتحول النظام السوري نفسه وتدريجيا إلى ميليشيا طائفية تشارك في صراع يائس مع الشعب السوري. كما سعى بشار الأسد إلى استنزاف سوريا من الموارد المالية والبشرية، والأكثر خطورة من كل ذلك هو تدمير النسيج الاجتماعي السوري من خلال خلق صراع طائفي بغيض. لقد تجاهل النظام، أو تحلل منذ بداية الثورة من جميع الالتزامات في زمني الحرب والسلم. واجه الثورة السلمية بالرصاص الحي، والتي حصدت أرواح خيرة الشباب في سوريا، ومع تحول الثورة إلى ثورة مسلحة لم يتردد النظام في سحق ودوس النظام قواعد الحرب أيضا، وبالتالي تحولت كل المستشفيات والمناطق السكنية والمساجد، والكنائس إلى أهداف للقصف بالبراميل والصواريخ، وامتلأت الفروع الأمنية بمئات الآلاف

الشعب السوري كافح على مدى السنوات الماضية ليس فقط للحفاظ على المقاومة، ولكن الأهم من ذلك، تماسكه ضد سياسة منهجية تهدف إلى كسره وتحويله إلى أقليات متناحرة ومتصارعة

من السوريين الذين يقتلون تحت التعذيب وقد أظهرت الصور التي تم تسريبها من الفروع الأمنية حجم ومستوى التعذيب والوحشية التي يعيشها السوريون في أقبية المخابرات التي يشرف عليها قادة ينتمون إلى طائفته حصرا. وهكذا، نجد أن الشعب السوري كافح على مدى السنوات الماضية ليس فقط للحفاظ على المقاومة، ولكن الأهم من ذلك، تماسكه ضد سياسة منهجية تهدف إلى كسره وتحويله إلى أقليات متناحرة ومتصارعة.

قد يكون حال الأسد اليوم وصفا نموذجيا لأي دكتاتور، رأينا ذلك من قبل مع هتلر، صدام حسين، وميلوسيفيتش، وغيرهم من الذين يعتقدون أنهم سيكونون قادرين على كسب الحرب حتى وهم يعيشون في مخبئهم السري، وتاريخ معظم الطغاة يكشف عن ممارسات شبيهة لما يقوم به الأسد اليوم فهو يعيش في فقاعته الخاصة به، وهذا النوع من الطغاة يصبح أكثر خطورة مع الوقت وبنفس الوقت تصبح قضية إزالته أو القضاء عليه أقل أولوية لأن تكلفتها أكثر ارتفاعا.

تمر سوريا اليوم بمرحلة انتقالية في أصعب الشروط، فكل المناطق التي ما زالت خارج سيطرة نظام الأسد يذيقها يوميا عذاب البراميل المتفجرة والقصف العشوائي والحصار ضد المدنيين مما يجعل الحياة فيها أشبه بالمستحيلة. إنه يفضل قصف وحرق هذه الأماكن على المفاوضة معها حول المستقبل.

 لكن المشكلة اليوم أن لا يكون الرد على الطائفية القاتلة هذه بأخرى مثلها، فهذا يدخلنا في دورة طائفية من القتل والعنف لا نهاية لها، لا بد من الرد على الطائفية ببناء الوعي العقلاني بأهمية الدولة المدنية الديمقراطية ومساواة الجميع أمام القانون، فالمزيد من الطائفية يعني المزيد من الدماء والفوضى، وهو الفخ الذي نصبه الأسد لنا فعلينا تجنب الوقوع فيه، لأن انتماءنا لسوريا يجب أن يكون أكبر وأهم.