الضحك في مواجهة الحرب  

2018.09.09 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في ختام رواية اسم الوردة، للروائي الإيطالي " أمبيرتو ايكو"، يكشف الراهب خورخي بورخيس، المتوجس من السلطة التخريبية للعمل الضائع لأرسطو، عن الضحك والكوميديا، والذي يسأل شارحاً "ماذا سيحدث إذا ما سمح بالضحك على كل شيء؟ فالكتاب بإمكانه أن يقوض بنية القداسة".

إنها سلطة الضحك والسخرية، التي تزرع بذور الشك، الذي يهدد سطوة اليقين، ويثقب جدران الصمت، تلك التي يتحصن بها أرباب السلطة، الزمانية والمكانية.

والضحك وما يفضي إليه، أدوات للمقاومة والتثقيف، وهذا ما نجده جليا في أعمال الكاريكاتير، تلك التي تهزأ كل صباح، من الأنظمة القمعية ومن المتغطرسين، وتعري أعمالهم، وهذه صور ترامب، أعتى المتغطرسين، تطالعنا عبر الإعلام الأمريكي أولاً، وتكاد تودي به.

هكذا كنا نواجه الموت والتعذيب، في ساحات تدمر بشكل يومي، كما نواجه المدى المفتوح لأمد الاعتقال، الذي لا تلوح له نهايه، ولا يمنح فسحة لأي أمل، كنا نواجهه بالإيمان، وبمزيد من السخرية واجتراح المشهد الساخر، وكان للسخرية والنكتة المرة أربابها، الذين ننتظر منهم دائما كل جديد، وما أن تخرج النكتة من فم صاحبها، حتى يتناقلها الرواة ساكبين عليها من نكهاتهم، وتوابل مطابخهم الخاصة، ما أتاحته لهم فسحة النقل العجلى، فإذا بها مجموعة من النكات المختلفة، صبت في قوالب متقاربة، تتقاطع في الصدر أو العجز.

إنها سلطة الضحك والسخرية التي تزرع بذور الشك الذي يهدد سطوة اليقين ويثقب جدران الصمت

وكدأب صاحبنا، الراهب خورخي بورخيس، كان هنالك دائما سدنة لهذه الهياكل، التي تعلي قيمة الوجوم والصمت، وتزدري الضحك والضاحكين، إلا أن رقة الماء أقوى من صلابة الصخر، فلا تلبث الضحكات أن تخترق عتمت الوجوم، وتطبع الرمادي برائحة الفرح.

 وفي وجه الطامات الكبرى، التي تحيق بنا ربما، يكون أحد منافذ النجاة أو جسور التجاوز، إنما يكمن في اجتراح الكوميديا والضحك، والتمرس على حضورهما الشافي، وإلا ستنكسر الأرواح وتنغلق المنافذ، ويطغى عالم ممتد من الصفن الخاروفي.

يذكّرني الصديق الأديب خطيب بدلة، حين دهمت مأساة التأميم، التي أدارها نظام عبد الناصر في سوريا، أثناء الوحدة بين القطرين، والتي كانت وبالا على سوريا، يومها شمل التأميم حفنة من الدراهم، كان قد ادخرها علامة حلب، خير الدين الأسدي، صاحب الموسوعة الأشهر، عن حياة حلب وساكنيها (موسوعة حلب المقارنة) يومها عاد الأسدي المفجوع، بضياع تحويشة العمر ضربة واحدة، بيد رائد القومية العربية، ورمزها الأوحد آنذاك،

وما أن دخل بيته، حتى استقبله ظله في المرآة، المتصدرة غرفته الخاصة، فما كان منه إلا أن بادره بالحديث، متبرما وساخرا كعادته، مرحبا خيرو .... أهلين أراك متجهما ما الأمر.... لقد أمموا لي كل ما أملك، ضاعت تحويشة العمر!

وماذا ستفعل؟ هل عرفت ما حل بأبي محمود، لقد توقف قلبه من ثقل الخبر، وأودعوه مقبرة الصالحين.

في غياهب المعتقل الرهيب اجترح صديقنا الملقب بالباشا" وهو لقب أدنى من قامته بقليل" فكرةً لحزبٍ أطلق عليه اسم "حزب الحمير"

وأبو مصطفى بقي أياماً يهيم على وجهه في الشوارع، محدثا نفسه وشاتما عبد الناصر، إلى أن أودعوه العصفورية "مصحة المصابين عقليا" في ريف حلب.

يتابع مسترسلا واجما والعمل خيرو؟ الحل أن تضحك.... أضحك وأنا في هذه الحال، قلبي يوشك على التوقف.......نعم فلتضحك، هذا هو حلك الوحيد .......حسنا أضحك ويصدر صوت ضحكة خافته، يستنكرها ظله، ما هذه الضحكة الصفراء الباهتة، هي تزيد الغم بدل تبديده .... يعاود الضحك بصوت أعلى، وضحكة أخرى وضحكة خامسة تنجح، ويستمران بالضحك قرابة خمس دقائق، وتصلح الضحكات بين خيرو وظله ما أفسده مبضع التأميم.

في غياهب المعتقل الرهيب، اجترح صديقنا الملقب بالباشا، "وهو لقب أدنى من قامته بقليل" فكرةً لحزبٍ، أطلق عليه اسم "حزب الحمير" لما وجد في حيواتهم "الحمير" من طرافة وفطنة وخبرة عملية تتجاوز الكثير من أقرانهم البشر.

وإذا انعطفنا إلى مملكة إدلب القلقة، التي يحشد لها نظام القمع والجريمة في دمشق، وتحاصرها قرارت دول العالم أجمع، بين رافض لضربة كيماوية ، ومهدد بها، واقتربنا جيدا من البيوت، التي تضيئها الشموع والضحكات ليلا، سنلمس بوضوح، ارتفاع معدلات السخرية المرة، المصحوبة بقدر واف من الضحكات، التي تطفئ أوار القلق أو تعبر عنه، والجدير بالذكر، أن مدينة إدلب بقراها الصغيرة المتناثرة، تتميز بنكتتها الطبيعية والغنية، التي هي حال بعض الظرفاء فيها وما أكثرهم، إلا أن هذه النكتة أخطأتها أو أهملتها يد المروجين، فباتت كالخمرة المعتقة بجرارها، لا يحتسيها إلا أصحابها.