الضحايا وملهاة الاستعراض الاستهلاكي

2021.05.03 | 06:25 دمشق

438.png
+A
حجم الخط
-A

لا يوجد تعريف واحد متفق عليه لمصطلح الضحايا، بل هناك تعريفات كثيرة تجمع بين الأبعاد أو الجوانب القانونية والسياسية والاجتماعية لهذه الفئة من البشر. أي الناس المتضررين من الجريمة الفردية أو المنظّمة أو من الكوارث الطبيعية أو من استبداد السلطات الحاكمة والحروب والثورات. ولعلّ أوسع تعريف عثرنا عليه هو ذاك الوارد في "الإعلان بشأن المبادئ الأساسية لتوفير العدالة لضحايا الجريمة وإساءة استعمال السلطة" الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 40/34 تاريخ 29/11/1985، والذي ينص في مادته الأولى على:

(ضحايا الجريمة

  1. يقصد بمصطلح "الضحايا" الأشخاص الذين أصيبوا بضرر فردياً أو جماعياً، بما في ذلك الضرر البدني أو العقلي أو المعاناة النفسية أو الخسارة الاقتصادية، أو الحرمان بدرجة كبيرة من التمتّع بحقوقه الأساسية، عن طريق أفعال أو حالات إهمالٍ تشكل انتهاكاً للقوانين الجنائية النافذة في الدول الأعضاء، بما فيها القوانين التي تحرم الإساءة الجنائية لاستعمال السلطة.
  2. يمكن اعتبار شخص ما ضحية بمقتضى هذا الإعلان، بصرف النظر عما إذا كان مرتكب الفعل قد عُرف أو قُبض عليه أو قُوضي أو أدين، وبصرف النظر عن العلاقة الأسرية بينه وبين الضحية. ويشمل مصطلح "الضحية" أيضا، حسب الاقتضاء، العائلة المباشرة للضحية الأصلية أو مُعاليها المباشرين والأشخاص الذين أصيبوا بضرر من جراء التدخل لمساعدة الضحايا في محنتهم أو لمنع الإيذاء.
  3.  تطبق الأحكام الواردة هنا على الجميع دون تمييز من أي نوع، كالتمييز بسبب العرق واللون والجنس والسن واللغة والدين والجنسية والرأي السياسي أو غيره والمعتقدات أو الممارسات الثقافية والملكية والمولد أو المركز الأسرى والأصل العرقي أو الاجتماعي والعجز.)

وبنظرة فاحصة على هذا التعريف، نجد أنّه ينطبق على أكثر من 95% من الشعب السوري، فباستثناء القيادات السياسية والعسكرية والأمنية في النظام، وباستثناء المجرمين والقتلة وبعض المستفيدين من تجار الحروب والأزمات، وقع ضررٌ ما - يتفاوت بالفداحة فقط – على كلّ السوريات والسوريين، مهما كان عمرهم أو دينهم أو قوميتهم أو عرقهم أو منبتهم الجغرافي أو الطبقي، ومهما كان اصطفافهم السياسي بعد اندلاع الثورة.

عانى الشعب السوري برُمّته من الاضطهاد خلال عهود الديكتاتورية بدءاً من الوحدة مع مصر عام 1958 وحتى اليوم، لكنّ أكبر معاناة بدأت مع اندلاع الثورة في آذار عام 2011. وقبل هذا التاريخ، وبعده بفترات طويلة لم يتضح لكثير من الضحايا معنى كونهم كذلك. فحتى العاملين في الشأن السياسي والحقوقي وفي مجالات الدفاع عن حقوق الإنسان، لم يكونوا جميعاً على سويّة متقدّمة في فهم هذا الأمر. وقد انعكس ذلك بشكل جليّ على أداء المنظمات والأفراد العاملين في حقول التوثيق والملاحقات الجنائية والمناصرة ومجموعات الضغط والتأثير. جعلهم هذا كلّه عُرضة للاستغلال المقصود وغير المقصود. كذلك كانوا بشكل أو بآخر ضحايا مرتين أو أكثر، مرّة للعنف والاضطهاد، وثانية للتجاهل، وثالثة لإساءة الاستغلال أو التسليع.

كثير من الضحايا تمّت معاملتهم من قبل أجهزة الإعلام أو منظمات المجتمع المدني أو حتى من الدول، بما يتناسب مع الغاية الخاصّة بكلّ جهة

كثير من الضحايا تمّت معاملتهم من قبل أجهزة الإعلام أو منظمات المجتمع المدني أو حتى من الدول، بما يتناسب مع الغاية الخاصّة بكلّ جهة. كان يتمّ تسليط الضوء على بعضهم بشكل مكثّف ومركّز ولفترات طويلة نسبياً من قبل عدّة وسائل إعلامية دفعة واحدة، ونظراً لكثرة الضحايا ونتيجة لكثرة الجرائم والأحداث على الساحة السورية، كان يتمّ نسيان نجوم الإعلام من الضحايا بسرعة كبيرة أيضاً، تفوق أحياناً السرعة التي تمّ إشهارهم بها. يبحث الإعلام دوماً عن الجديد، عن الإثارة والتشويق، حتى في نقل الألم والمعاناة، لذلك سرعان ما ينتقل من حدث لآخر ومن ضحية لأخرى، دون اكتراث بما ألمّ أو بما يمكن أن يُلمّ بمن سبق وكانوا تحت الضوء، من أضرار قد تكون من الجسامة بحيث لا يمكن تداركها أو تعويضها.

بعض الضحايا يتأقلمون مع الوضع، لا بل ويندمجون بالمسرحية بشكل فعّال، فيصبحون بدرايةٍ أو بدونها كنجوم هوليود، في طريقة استعراضهم لما كان سابقاً معاناةً وألماً. بعضُ الأذكياء من فئة الشباب صغار السنّ نسبياً، ممن أتيحت لهم الفرصة لتطوير قدراتهم، تمكنوا من التعلّم بشكل سريع، ومنهم من أجاد لغة العصر بسرعة، أي اللغة الإنكليزية، وبات سفيراً للضحايا بحكم الأمر الواقع لا بحكم التفويض منهم. وهؤلاء ممن استجابوا لنمط الحياة والتفكير الغربيين، صاروا بشكل أو بآخر محسوبين على نمط الحياة والعقلية هذه، فابتعدوا تماماً عن إيصال حقيقة معاناة غيرهم من الضحايا، فغالباً ما يفقدون القدرة على إيصال المشاعر والأحاسيس – على الأقل من وجهة نظر الضحايا – بعفوية وصدق وإخلاص، فالتسليع المتماشي مع متطلبات الاستهلاك الإعلامي الغربي يعقّد القضايا عندما يبسّطها لدرجة الاختزال.

بعض الضحايا من الفئات العمرية الأكبر قليلاً، ولأسباب كثيرة منها ماضيهم السياسي أو انتمائهم القومي أو الديني – الذي يأخذه الغربيّون بعين الاعتبار بشكل كبير، ولا يخفونه أبداً بل يتحدّثون عنه جهاراً نهاراً تحت شعارات حماية الأقليات – استطاعوا أن يطوّبوا أنفسهم متحدثين شبه حصريين باسم الضحايا في مجالات حقوق الإنسان وأمام العديد من المنظمات الدولية، ونتيجة لذلك استطاعوا احتكار التمويل والدعم، وحتى احتكار التوصية به للمؤسسات المانحة، باعتبارهم ثقات وأصحاب معرفة وخبرة وتجربة. أثّر هذا الأمر بشكل كبير ليس فقط على أداء منظمات المجتمع المدني السوري، وخاصّة ما لحقها من شبهات فساد ومحاصصة ومحسوبيات واحتكار وتداول عائلي، بل كان تأثيره الأكبر على الضحايا أنفسهم، الذين باتت مصالح الجهات المانحة ومنظمات المجتمع المدني – لا احتياجاتهم الفعلية - هي التي تحدد أولوياتهم.

مأساة مازن حمادة شاخصةٌ أمامنا بشكل محزنٍ ومثير للأسى، فهو ضحيّة استبداد نظام الأسد أولاً، فقد اعتقل ثلاث مرات آخرها كانت لمدّة عام ونصف في زنازين المخابرات الجويّة. وهو ضحيّة استغلال الدول والمنظمات ووسائل الإعلام، فقد تمّ تسليط الضوء عليه خلال فترة معينة بشكل كبير، التقى خلالها بكبار الشخصيات السياسية والحقوقية الأوروبية والأميركية. وهو ضحيّة الإهمال والنسيان بعد انتهاء المصلحة أو الغاية أو الصلاحية. أدّى ذلك كلّه إلى إصابته بأمراض نفسية عديدة دخل إثرها مصحّاً في مدينة أمستردام بهولندا، فأجاءه الظلم المكعّب هذا إلى اتخاذ قرار العودة إلى الجلاد، أو على الأقل تسليم نفسه لمن أعادوه إليه بالحيلة والخداع أو باستغلال مرضه وأزمته.

أمثال مازن حمادة أكثر من أن يعدّوا، والضحايا المسحوقين بين سندان العنف ومطرقة الاستغلال أكثر بمئات آلاف المرّات. المأساة مستمرّة، وستطول فصولها كثيراً، ورغم قتامة فصولها، إلا أنها بمثابة ملهاة عند البعض الآخر من أرباب تصدير سلع الاستهلاك، ليس الإعلامي فقط، بل الثقافي والسياسي أيضاً.