الصين والأمن القومي العربي الجديد

2025.09.23 | 03:53 دمشق

آخر تحديث: 23.09.2025 | 03:53 دمشق

333
+A
حجم الخط
-A

يُعدّ هجوم سلاح الجو الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة لاغتيال قادة (حماس) يوم الثلاثاء في 9 أيلول 2025 تحوّلًا خطيرًا في مسار العلاقات الدولية، كما يُعدّ تجاوزًا لكل الخطوط الحمراء في مسار العلاقات الشرق أوسطية. فقطر لم تشكّل في يومٍ من الأيام أي تهديد لأي بلد كان، بما فيها إسرائيل، بل على الضدّ من ذلك لعبت أدوارًا مهمّة في تخفيف التوترات الأمنية في العديد من المناطق، وكان لها دورٌ لا يمكن تجاهله في رعاية المفاوضات الأميركية مع حركة طالبان، كما إنّها تسهّل وتدير المفاوضات بين حماس وإسرائيل منذ بدء الحرب في غزّة بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023.

تعاملت القيادة القطرية بحكمة مع هذا الاعتداء السافر، فتوجّهت إلى المؤسسات الدولية في الأمم المتحدة والمؤسسات الإقليمية، فكان اجتماع مجلس الأمن الأخير بهذا الخصوص ومؤتمر القمة العربية والإسلامية في الدوحة الذي جرى يوم الإثنين في 15 أيلول/سبتمبر 2025 للبحث في هذا العدوان. تدخل هذه التحرّكات في إطار ردود الأفعال السياسية والمباشرة، لكن ثمّة ما هو أعمق ممّا يظهر للعلن في معالجة آثار هذا العدوان غير المسبوق. لا شكّ بأنّ دوائر صنع القرار، ليس في قطر وحدها، بل في جميع دول المنطقة، وخاصّة مصر وتركيا والسعودية وغيرها من دول الخليج، قد بدأت منذ تلك اللحظة بإعادة النظر في استراتيجياتها الخاصّة بالأمن القومي لبلدانها منفردة وللمنطقة على وجه العموم.

صحيح أنّ قطر نفت عبر مكتب الإعلام الدولي القطري ما نقلته وكالة «أكسيوس» عن مصدر مجهول خبر "إعادة تقييم شراكتها الأمنية مع الولايات المتحدة الأميركية"، وصحيح أنّها أكّدت بالقول: "إنّ الشراكة الأمنية والدفاعية بين دولة قطر والولايات المتحدة الأميركية أقوى من أي وقت مضى وستستمر في النمو"، إلا أنّ ذلك كلّه لا يعني أنّ إعادة التقييم غير جارية، بل هي جارية بلا أدنى شكّ. فهذه الهزّة الكبيرة للثقة بالشريك الأميركي لا يمكن إخفاؤها تحت غطاء التصريحات الإعلامية والسياسية الهادئة والمتوازنة، وما التصريحات الإعلامية إلا كلامٌ من "فوق الجوزة"، كما يقول المثل الدارج.

تستشعر دول المنطقة جميعها الخطر الإسرائيلي، وبدء التعاون المصري التركي في مجال تصنيع المسيّرات واحدٌ من مؤشرات كثيرة على ذلك.

تتأثر اعتبارات الأمن القومي بالتغيّرات الكبرى التي تحيط بالدول، وليس ثمّة ما هو أكبر من هذا الأمر إقليميًا، وهو يستدعي بشكل أو بآخر البحث عن البدائل الممكنة لردع إسرائيل، أو على الأقل لدفع الولايات المتحدة إلى لجمها منعًا لمزيد من العدوان. والبديل المحتمل، والذي لا بدّ أنّ القطريين والخليجيين والجميع في الشرق الأوسط بدأوا يفكّرون به ويلحظون وجوده، هو الصين. بعد الاستعراض الأخير للقوّة الصينية في احتفالات الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، ظهر جليًّا أنّ التنّين لم يعد يخفي قوّته، بل على العكس من ذلك فإنّه أظهرها بكلّ وضوح للعالم أجمع، وللأميركيين بالأخصّ.

سبق للمملكة العربية السعودية أن اتجهت نحو بكّين لتسوية ملف العلاقات الشائكة مع إيران، وقد نتج عن ذلك اتفاقية تاريخية بين البلدين، جاء ذلك في سياق التحوّل السعودي نحو تنويع مصادر القوّة لمواجهة التحديات، فبعد الاعتداءات الحوثية على منشآت النفط في أرامكو التي وقعت يوم السبت 14 سبتمبر 2019، وبعد ردّ الفعل الأميركي البارد، تغيّر الموقف السعودي في العمق من دون أن يتمّ الإعلان عن ذلك، وهذا ما نتوقّع أنّه يجري الآن في قطر.

تستشعر دول المنطقة جميعها الخطر الإسرائيلي، وبدء التعاون المصري التركي في مجال تصنيع المسيّرات واحدٌ من مؤشرات كثيرة على ذلك. سيكون من الطبيعي أن تعقد الدول المحورية في المنطقة اجتماعات ثنائية ومتعدّدة على مستوى رؤساء أجهزة الأمن القومي، وستناقش البدائل المطروحة أمامها، ومن بينها البديل الصيني. سترحّب الصين بكل تأكيد بمثل هذا التوجّه الشرق أوسطي، فهي بطبيعة الحال تتمدّد في الفضاءين الآسيوي والإفريقي اقتصاديًا من خلال مشروعها الجبّار "الحزام والطريق"، وهذا يستتبع بالضرورة علاقات سياسية وأمنية وربّما تحالفات عسكرية لحماية هذه المصالح المتنامية.

كذلك إيران تشعر بالخطر المحدق وبالشرّ المتربّص بها، وهي بشكل أو بآخر تحاول الوصول إلى علاقات مميّزة مع الصينيين بعد أن خذلها الروس أيضًا في حربها مع إسرائيل التي استمرّت اثني عشر يومًا. ومع إدراك إيران أنّه لا الصين ولا أحد آخر في العالم سيخوض حروب الآخرين، إلّا أنّها تعرف جيدًا أنّ المصالح الصينية في إيران كبيرة أيضًا، وأنّ الصين ستدرك حجم تعطّش إيران لتحديث سلاحها الدفاعي، بل قد تسعى جاهدةً لشراء طائرات حديثة كتلك التي استخدمتها باكستان في مواجهة الهند، بعد أن أظهرت الحرب كم هي سماؤها مكشوفة أمام الطيران الإسرائيلي.

متى ستنفتح الصين على احتمالات التقارب مع دول الشرق الأوسط؟ وهل ستخاطر برفع مستويات التوتّر المرتفعة أصلًا بينها وبين الولايات المتحدة؟

أثبتت حرب الأيام القليلة التي دارت بين الهند وباكستان أنّ السلاح الصيني فعّال جدًا في مواجهة الأسلحة الغربية، وهذا يعني فيما يعنيه أنّ الدول الإقليمية ستفكّر بتنويع مصادر دعم منظوماتها الدفاعية، وستكون العلامات العليا من نصيب الأسلحة الصينية بعد هذه التجربة الفعلية التي شاهدها العالم أجمع بأمّ الأعين وعلى البث المباشر. من هنا جاء الإعلان عن توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك بين كلٍ من باكستان والمملكة العربية السعودية يوم الأربعاء في 17 أيلول/سبتمبر 2025. لا شكّ بأنّ مثل هذه الاتفاقيات الاستراتيجية لا تأتي لحظة ولادتها، بل تسبقها تحضيرات ومفاوضات طويلة الأمد، لكنّها تدلّ على حاجة دول المنطقة إلى التضامن والتكاتف للوقوف في وجه هذا التطرّف الإسرائيلي المنفلت من كل لجام.

بعد التدخّل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، ازداد الطلب عالميًا على الأسلحة الروسية، وقد أعلن وزير الدفاع الروسي مرارًا أنّ الجيش الروسي قد جرّب ما يزيد على 320 نوعًا من الأسلحة الجديدة هناك. جاءت هذه الزيادة في الطلب على السلاح الروسي نتيجة طبيعية للدعاية الروسية التي كانت الساحة السورية مسرحًا لها، وهذا ما حصل للسلاح الصيني بعد حرب الهند وباكستان. لكن الأهمّ من ذلك كلّه هو الثقة بالحليف الجديد المصنّع للسلاح.

السؤال المهم الآن، والذي ستجيب عنه الأيام القادمة: متى ستنفتح الصين على احتمالات التقارب مع دول الشرق الأوسط؟ وهل ستخاطر برفع مستويات التوتّر المرتفعة أصلًا بينها وبين الولايات المتحدة؟ والسؤال الذي لا يقلّ أهمّية عن سابقه هو: هل ستتصرّف دول المنطقة بعقليّة جماعية هذه المرّة، أي هل ستحاول خلق جبهة فيما بينها لمواجهة التحديات الإسرائيلية، وهل ستتفاوض مع الصين بالطريقة الجمعية ذاتها؟ إنّ من شأن ذلك إن حصل أن يقوّيها جميعًا، ولا يفوت أحدًا أنّ هذه الفرصة ستسعد بها الصين كثيرًا من جهتها. المخاطر كبيرة جدًا، ويجب أن يكون التجاوب متناسبًا مع حجمها، وهذا ما نأمله للحفاظ على الأمن القومي لدول المنطقة من شرٍّ مستطيرٍ تمثّله أعتى حكومة يمينية متطرّفة في إسرائيل منذ تاريخ إنشائها.