الصورة المشوشة للموازنة العامة للدولة في سوريا

2022.11.06 | 06:21 دمشق

الصورة المشوشة للموازنة العامة للدولة في سوريا
+A
حجم الخط
-A

يعدُّ تحليل واقع المالية العامة للدولة، ودراسة تطوراتها، ضروريا لفهم مجموعة من الحقائق والظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سوريا، وبالتالي يعدُّ مدخلاً أساسياً للوقوف على مستوى الأداء الاقتصادي للحكومة، واتجاهات تطور وتعثر هذا الأداء، ومعرفة المتغيرات التي تؤثر فيه، وتدفع العوامل الاقتصادية الكلية والجزئية للتفاعل ضمن اتجاهات هذا الأداء.

وعلينا أن نعرف أنَّ الموازنة العامة للدولة تتجاوز كونها أداة محاسبية تبيَّن الإيرادات والنفقات المستقبلية فقط، بل هي أداة لتحقيق أهداف الدولة الاقتصادية والاجتماعية، وهي بمثابة وثيقة شرف ووعد وعقد مع المواطنين مفادها الوعد بالحفاظ على المال العام وحسن إدارته واستثماره.

لا شك أن الإدارة السيئة والفاشلة للاقتصاد السوري بالعموم وإغراق مفردات الحياة اليومية بالعسكرة والحالة الأمنية التي أفسدت كل ما له صلة بالمواطن ومعيشته وموارده، والخصومة الأبدية بين حكومات النظام المتعاقبة والرقم الدقيق، بالإضافة إلى فساد وإفساد جميع القطاعات، كل ما سبق سينعكس حتماً على حالة وإدارة المالية العامة للدولة، لكونها في حقيقة الأمر يجب أن تعكس صورة النشاط الحقيقي للدولة في كل مناحي وتفاصيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لو نظرنا إلى الموازنات العامة المعلنة منذ عام 2010 حتى موازنة 2023 نجد أن العامل المشترك الأكيد بين هذه الموازنات هو العجز والرقم المشوش والقيمة غير الحقيقية، حيث نجد أسعار صرف متعددة ومختلفة في مستندات الحكومة الرسمية وفي أسواق التداول الفعلي، بالإضافة للأرقام الارتجالية والتقديرات الموجهة وغير المعبرة في كل ما ورد في تفاصيل وبنود في هذه الموازنات.

كيف يتم التعامل مع عجز الموازنة؟

العجز الحقيقي في الموازنة لايظهر إلا بعد إنجاز جلسة قطع حسابات الموازنة، وهناك لجنة خاصة لهذا الغرض لكنها معطلة وغير فاعلة، حيث إنها أنجزت قطع حسابات موازنة 2013 في الشهر السادس من عام 2019، بعد مضي 6 سنوات جرى فيها الكثير والقليل على كافة الصعد والمستويات، وأبرزها انهيار قيمة الليرة السورية وتعطل آليات الاقتصاد الحقيقي وتفاقم المديونية، وتآكل الاحتياطي النقدي، وضعف القوة الشرائية وتدني مستويات المعيشة للمواطن، وفي ظل غياب الرقم الصحيح وغياب التصريح الحكومي المسؤول والتخبط الواضح في السياسات المالية والنقدية لدى حكومة النظام المالية، كيف سيتم التعامل مع عجز وفشل الموازنات المتعاقبة، إذا أردنا مناقشة وتحليل هذه القضية في ضوء معطيات موازنة 2023 وكيفية إدارتها وتمويلها، وأين تكمن الحلقة المفقودة.

فالقيمة الحقيقية لموازنة 2023 المقدّرة بـ 16,550 تريليون ليرة سورية، وفق سعر الصرف في السوق السوداء (5200 ليرة للدولار في دمشق)، هي 3,18 مليارات دولار. أما موازنة العام الحالي، فكانت 13,325 تريليون ليرة، وكانت قيمتها الحقيقية حين إقرار مشروعها من جانب الحكومة، قبل عام من الآن، نحو 3,8 مليارات دولار، وذلك استناداً إلى سعر الصرف في السوق السوداء حينها (3500 ليرة للدولار). أي إن القيمة الحقيقية لموازنة 2023 انخفضت 620 مليون دولار، بنسبة 16,31%، مقارنة بالتي سبقتها. فهي موازنة تقشفية وبخلاف ما تذهب إليه بعض التحليلات.

وتجدر الإشارة هنا إلى تراجع المصادر المباشرة للتمويل بشكل كبير، وانطلاقاً من العائدات النفطية والثروات الباطنية التي تراجعت من 380 ألف برميل يومياً إلى 9 آلاف برميل، وتراجعت مساهمة القطاع السياحي وتقلصت قيمة الضرائب على كثير من الأنشطة نتيجة غيابها وتوقفها كلياً، وتآكل الاحتياطي النقدي، ومع كل ذلك لازال هناك بعض المصادر التي يتوجه لها النظام لتمويل مشروعه في التمسك بالسلطة، ومن هذه المصادر:

الاقتراض الداخلي:

في البداية كان الاعتماد على احتياطي البنك المركزي لتعويض التراجع المستمر لمصادر التمويل واستمر ذلك حتى اقترب من الإفلاس في نهاية 2016 تقريباً، ثم لم يعد هناك ما يكفي، وفي عام 2020 تم إعادة تفعيل المرسوم رقم 60 لعام 2007، وقد تم إصدار سندات بمبلغ 300 مليار ليرة، والتخطيط لإصدار سندات بقيمة 200 مليار ليرة سورية لتمويل الاستثمار، وأخذ مبلغ 1983 مليار ليرة سورية من الاحتياطي، و500 مليار ليرة أوراق مالية حكومية، فقد بلغت قيمة الديون الداخلية في منتصف عام 2020 نحو 645 مليار ليرة سورية بعد اكتتاب عدد من المصارف على سندات الخزينة، وبلغ الدين العام 11،6 ٪ من إجمالي اعتمادات الميزانية.

طباعة النقود:

هناك بعض المصادر تؤكد لجوء حكومة النظام إلى طباعة النقود بشكل أكثر من اعتمادها على المديونية، وطبعاً هذه نقود مكشوفة بلا رصيد حقيقي مما يسبب تضخما جامحا وما ينجم عنه من آثار على معيشة المواطن.

تصفية وخصصة بعض المصانع والشركات:

قد قدرت بعض المصادر عدد هذه الشركات بنحو 40 من أصل 118 شركة تتبع لوزارة الصناعة، وذلك بذريعة أنها مدمرة ومتوقفة عن الإنتاج، وتمرر هذه القرارات عبر مديرين ولجان متسلقين وتحت عنوان الإصلاح الإداري والاقتصادي.

المساعدات الأممية:

تشكل المساعدات والمعونات الأممية التي تدخل الأراضي السورية عبر قنوات النظام ومؤسساته، مصدراً ليس بقليل من مصادر التمويل حيث يشير أحد المصادر إلى أن ماينتفع به النظام سنوياً من المعونات يقدر ب 3 مليارات دولار، بالإضافة إلى سرقة ونهب غالبية هذه المعونات، وهناك بعض الإحصاءات تؤكد أن ما يصل من المعونات لمستحقيها لا يتجاوز 10 ٪.

استغلال التحويلات الخارجية:

من خلال التلاعب بسعر الصرف الرسمي والذي لايصل إلى 50٪ من السعر الحقيقي، بالإضافة إلى تأخير تسليم الحوالات وتحديد سقوف لها وملاحقة المستلمين بمسوغات أمنية غير صحيحة، والاستفادة من إنفاق هذه التحويلات في الأسواق المحلية، لتأمين سبل العيش لمستلميها وبالتالي هذا ينشط – ولو بالحد الأدنى – حركة الأسواق.

الديون الخارجية:

وهذه من المناطق السوداء والتي تصل إلى درجة السرية، حيث لا يوجد رقم موثوق يمكن اعتماده لحجم المديونية الخارجية، وغالبية الدين موزع بين روسيا وإيران، والعلامة الفارقة هنا هو خط الائتمان الإيراني الذي كان جزء منه نقديا وجزء على شكل معدات عسكرية ومشتقات نفطية، حيث نلاحظ كيف رهن رئيس النظام موارد وخيرات سوريا المستقبلية لأكثر من نصف قرن، قدمها على شكل رشى سياسية مقابل الحصول على دعم مالي وسياسي لمعركته ضد شعبه.

الحلقة المفقودة / المحفظة السوداء:

غسيل الأموال والتزوير والتزييف عبر الشبكات المرتبطة بعائلة محمد مخلوف وأولاده والتي أسست مركزاً لها في أبراج موسكو منذ عام 2012، تدير من هناك تدفقات الأموال بين روسيا وسوريا، وبالتعاون مع شركات وهمية، وكانت المهمة مزدوجة حيث تهرب أموال عائلة الأسد إلى الخارج، وتطبع النقود الورقية السورية وتجلب الأموال والدعم المالي الروسي إلى سوريا بضمانات النفوذ والمصالح المستقبلية.

النفط السري عبر وسطاء هم طبقة من وسطاء التجارة السوداء بحيث يمثلون النظام ويستخدمهم كقفازات للغوص في وحل التنظيمات الإرهابية المختلفة والبداية كانت مع تنظيم الدولة (داعش) حين كانت تسيطر على منابع النفط واليوم مع قسد، وأبرز هؤلاء الوسطاء مجموعات القاطرجي، والمجموعات الصغيرة التابعة لها أو الشريكة، وتعمل كذلك بالسمسرة في صفقات القمح والشعير.

تجارة المخدرات وهي من آخر ابتكارات النظام حيث بدأ يعطي حماية لمجموعات مافيوية تعمل في زراعة الحشيش وتجارة المخدرات وتروج لها في الداخل والخارج، وبدأت الأخبار تنتشر عن صفقات وشحنات مخدرات في أماكن مختلفة من العالم ومصدرها سوريا.

في الختام يمكننا القول: لقد استطاع النظام ولو بشكل نسبي الاستفادة من مصادر تمويل داخلية كالقروض والتمويل بالعجز، وكذلك من مصادر تمويل خارجية مستنداً للعامل السياسي والتفريط بموارد ومقدرات البلاد وسيادتها بشكل وقح وفج، ولكن من المؤكد بأنه لن يتمكن من ضبط الارتدادات والاختلالات الكبيرة الناجمة عن هذا العجز المتراكم في مالية الدولة، حيث إن ذلك مرتبط بكثير من المتغيرات كالاستهلاك الكلي والادخار الكلي وتكوين رأس المال الثابت ومستوى التشغيل والناتج الإجمالي المحلي، وكل ذلك له انعكاساته الاجتماعية والاقتصادية الحادة جداً، ولا يمكن لعقلية عصابة تسببت بكل هذا الخراب أن تُنتج حلولاً، ليس على صعيد المالية العامة فقط بل على  صعد عمل الدولة كافة.