icon
التغطية الحية

الصورة الثابتة وحركة المعنى.. مايكل أنجلو أنطونيوني وفلسفة الإخراج السينمائي

2023.04.01 | 11:26 دمشق

سينما
جاك نيكلسون يقدم جائزة الأوسكار لأنطونيوني
+A
حجم الخط
-A

منذ أن قرأت كتاب "بناء الرؤية" للمخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، وأنا أحاول بناء تصور عنه كإنسان، ومخرج، وكاتب، ورسام. وفي كل مرة أعثر على إضافة جديدة تقتضي إعادة النظر، وكأن الكبار لا يمكن تأطيرهم.

فحياة المخرج السينمائي الإيطالي مايكل أنجلوا أنطونيوني، هي في الحقيقة أكثر من حياة على المستوى الإبداعي. فهو الرسام والكاتب والمترجم والناقد والرياضي وأخيراً المخرج. فلماذا سيطر هذا اللقب الأخير عليه؟ هذا ما لم تفصح عنه الحوارات الصحفية التي أجريت معه، والكتب التي كتبت عنه، بما فيها كتاب "بناء الرؤية"، وكتاب رولان بارت "عزيزي أنطونيوني".

وسئل أنطونيوني ذات يوم من عام 1985 عن المكانة التي يشغلها الرسم والكتابة في حياته، فأجاب: "في فترات الانقطاع عن العمل أكرس نفسي لكتابة القصص، والتي تصبح كتاباً فيما بعد، أما الرسم فانه شيء مختلف. وأنا عادة أفضل الرسم على الكتابة. إنه يقلقني أقل. حين ترسم يقود الحدس يدك".

كانت السينما امتدادا للفلسفة وعلم الاجتماع والفن التشكيلي والموسيقى، لا بل كانت تجسد كل ذلك بوضوح

أمّا الرؤية التي حملها عنوان الكتاب، فإنها الرؤية البصرية التي يعتبرها أنطونيوني ضرورة: "أنا أحب تقريباً كل شيء أراه، وما يشغلني باستمرار ولا أتعب منه أبداً: النظر، إذ لا يمكن اختراق الحدث بتقرير، فالرؤية البصرية بالنسبة لنا نحن صانعي السينما هي ضرورة، والكاميرا هي عين النميمة، مختبئة خلف ثقب المفتاح". وهذا ما جعل بعض الناس يعتبرونه خير من صور النفس البشرية بالأشعة ليظهر نواقصها وعيوبها وقوتها وضعفها في الوقت نفسه.

آنذاك، كانت السينما امتدادا للفلسفة وعلم الاجتماع والفن التشكيلي، والموسيقى، لا بل كانت تجسد كل ذلك بوضوح. ولم يكن أنطونيوني وحيدا في تلك المدرسة، (تيار كبير امتد من نهاية الأربعينيات وحتي بداية الثمانينيات برز فيه "فيسكونتي" و"فيلليني" و"روسلليني" و"دي سيكا" و"بازوليني" و"رينوار" و"كوكت" و"جودار") وغيرهم، إلا أن ما يميز أنطونيوني أنه –بحسب ما يقول- يؤمن بالارتجال، وليس من عادته أن يهيئ نفسه لمواجهة العمل.

سينما أنطونيوني هي سينما المشاعر الإنسانية التي تتعرض لمأساة الوجود الإنساني والاغتراب. وذلك لأن أفلامه تبدأ كما يقول: "من مشاهداتي للحياة الحقيقية. تتحول هذه المشاهدات إلى نوع من الغذاء الروحي. إن خلق عمل فني لا يعني أن تبتكر أشياء من لا شيء، بل أن تعيد صناعة ما هو قائم فعلاً حسب طبيعتك وأسلوبك الشخصي".

لم يكن أنطونيوني ملتزماً برسالة سياسية أو اجتماعية، فقد كان الناس كل الناس هاجسه باعتبارهم مادة المجتمع. انطلاقاً من هذا الالتزام المفتوح قامت أفلامه على القصص التي يكتبها هو. لأن جميع القصص والروايات الأخرى كانت ملتزمة برسالة ما محدودة.

 يختلف انطونيوني في رؤيته لعمل المخرج عن كل المخرجين، فهو أول مخرج أوروبي يستخدم تقنية اللقطة الطويلة، وهو أول مخرج ترك الكاميرا تتابع التصوير بعد انتهاء المشهد، وذلك لالتقاط أفكارهم وحالاتهم الذهنية، كما يقول. أما بالنسبة للممثلين، فإنه يرى أن الممثل ينبغي أن يعمل على الصعيد الخيالي لا النفسي لأن الخيال يأتي عفويا، وبدون وسيط "أنا أفضل الحصول على النتائج بطرق خفية، وذلك بأن أحرض لدى الممثل بعض مميزاته غير الواضحة، التي لا يدرك وجودها هو نفسه، فالممثل لا يحتاج أن يفهم، بل يحتاج أن يكون. أريد من شخصياتي أن تقترح الخلفية في حد ذاتها، حتى عندما لا تكون مرئية. أريدهم أن يدركوا بقوة بحيث لا يمكننا تخيلهم بمعزل عن سياقهم المادي والاجتماعي حتى عندما نراهم في مساحة فارغة".

وقد برع أنطونيوني في "تثبيت الزمن داخل الفراغ حيث لا تدور الكثير من الأحداث في مشاهد مدروسة هندسياً بشكل دقيق تجعل الصور ثابتة على الشاشة، لكنها متحركة المعنى داخل ذهن المتفرج". وكأنه يدفعنا للتأمل، وطرح الأسئلة حول الوضع البشري، وإشكاليات الإرادة الحرة، والهوية، والموت، وغاية الوجود، ومعنى الحياة. فوظيفة الصورة التي تسعى من خلال منظومة علاماتها السمعية والبصرية تسعى إلى تفسير التناقضات، وفك الجدل والغموض الذي يعاني منه الواقع اليومي للإنسان. من حيث أن الفيلم السينمائي وسيلة من وسائل الاتصال الحضاري والثقافي، وعندما يتحدى المجتمع معتقداته وأيدولوجياته السائدة في الأفلام، يصبح أكثر قدرة على استجواب نفسه وتبني موقف مغاير.

لا يوجد فيلم لا ينبض بالحياة من الناحية النفسية، فحركة الإنسان دراما يمكن رؤيتها من زوايا عديدة مختلفة؛ في الأفلام، وفيمَن يصنعونها، وفيمَن يشاهدونها أيضا، وهذا يشبه رأي أنطونيوني بالسفر، إذ أنه يقول: "حين أسافر إلى بلاد أخرى أتمثل جزءاً من ثقافتها، وأخسر جزءاً من ثقافتي. وهذه حال المشاهد أيضا".

سيرة أنطونيوني

ولد مايكيل أنجلو أنطونيوني في إيميليا رومانيا شمالي إيطاليا عام 1912، تخرج من جامعة بولونيا- كلية الاقتصاد. ظهرت أول بوادر اهتمامه بالسينما في مقالاته التي كتبها لجريدة "ليفرارا" ثم لمجلة "السينما".

 أتثناء وجوده في روما، درس لبعض الوقت في المعهد التجريبي السينمائي، ثم عمل ككاتب سيناريو، ثم مساعد مخرج لأنريكو فولكينيوني ومارسيل كارينه. صور أول أفلامه "سكان سهل البو" عام 1947 ثم "حكاية قصة حب" عام 1950. إلا أن شهرته كمخرج عالمي لم تتحقق إلا مع فيلم "الانفجار" 1966 الذي فتح أمامه العالم فأخرج بعده فيلم "نقطة زابريسكي" عام 1970 في الولايات المتحدة الأميركية ثم تلاه بفيلم "تشونغ كيو".

 وفي عام 1974 صور فيلم "المسافر" وهو من إنتاج عالمي في كل من إسبانيا وأفريقيا. وقد منح جائزة الأوسكار الشرفية عام 1994 اعترافا بمكانته السينمائية العالمية، وقدمها له جاك نيكلسون.

كثيرة هي المقالات التي كتبت عن ذلك المخرج الكبير، وكلها أثارت أسئلة حول طريقته في البحث عن هوية الإنسان، فالهوية الإنسانية لم تواجه أسئلة الفلسفة وحسب، بل هي مثار جدل لدى شريحة واسعة من المهتمين بالشأن العام، من حيث أنه "لا يمكن أن يكون هناك شيئين أو كيانين منفصلين عن بعضهما البعض ويشتركان بجميع الخصائص"، بحسب رأي الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتس. وهذه حال الكائنات البشرية، فهي كائنات منفصلة، تلتقي أو تجتمع أو تتوافق بناء على الخصائص المشتركة بينها.

توفي أنطونيوني في الـ30 من تموز عام 2007 في نفس اليوم الذي توفي فيه المخرج السويدي إنغمار بريغمان الذي يقول: "إخراج فيلم هو مثل تنظيم عالم جديد كامل". وبرحيلهما كانت نهاية عصر سينمائي أساسي في تاريخ السينما.