تتمتع منطقة الجزيرة السورية أو ما تسمى "شرق الفرات" بمزايا عديدة في الجغرافيا الساكنة أكسبتها طابعًا استراتيجيًا، ما جعلها مطمعًا لقوى محلية "انفصالية" وأخرى إقليمية تعمل على استغلالها لتحقيق أهداف جيوسياسية، ومن خلفها قوى دولية محرِّكة تمثل امتدادًا حقيقيًا لاحتلالات غابرة.
تتمركز في "شرق الفرات" العديد من المناطق الحيوية والمصالح الاستراتيجية للبلاد، مثل: مطار القامشلي، وشركات النفط، وأربعة أنهار تخترقها من الشمال إلى الجنوب، أما نهر الفرات، فيعد الشريان المائي الأكثر أهمية، وبالإضافة لذلك فإنها تعتبر مركزا للدعم الاستراتيجي، العسكري والأمني، بنوعيه الطبيعي والصناعي، فضلا عن وجود سد الفرات لتوليد الطاقة الكهربائية.
أكسبت الأهمية الجيواستراتيجية لـ "شرق الفرات" تأثيرًا جيوسياسيًا متعاقبًا ومتناميًا طوال تاريخها السياسي والعسكري، وانعكس ذلك عليها وعلى سوريا عمومًا، إيجابًا، وأحيانًا سلبًا، علاوة على تأثير ذلك في المستويين الإقليمي والدولي، ومن ذلك احتلالها من قبل فرنسا وبريطانيا خلال الفترة (1920-1945)؛ لتصبح منطقة صراع دولي إقليمي.
وازدادت أهمية "الجزيرة السورية" في استراتيجيات الولايات المتحدة مع احتلالها للعراق ومن ثم نشوء وتطور تنظيم الدولة "داعش" عام 2014، لتصبح الجزيرة بالنسبة لواشنطن "قلب الصراع". وجاءت (روسيا)، بوصفها حامية لنظام الأسد، لتستغل المنطقة خدمة لعملياتها اللوجستية وتوسعة نفوذها في الجغرافية السورية. كذلك، أعطى الامتداد الطويل لحدود الجزيرة مع تركيا والعراق، شكلًا استراتيجي القيمة والتأثير؛ حيث شكَّلها على هيئة شبه جزيرة، ومنحها خصوصية سواء في السلم أو الحرب.
تحولت المهمة المعلنة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في منطقة شرق الفرات من تحالفٍ لحرب تنظيم الدولة "داعش" إلى صراع مصالح بين أطراف الصراع الإقليمي
لقد أتاح وقوع الجزيرة على قطاع جغرافي متميز في حدها الشمالي المشاطر لتركيا، وكذلك الشرقي مع العراق، لكل من يسيطر عليها، التحكم في معادلات التوازن الجيواستراتيجي والجيوسياسي، بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في منطقة الشرق الأوسط، عسكريًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، ولا سيما في ظل اشتداد التنافس الدولي والإقليمي في المنطقة الممتدة بين البحر المتوسط حتى إيران، الذي يمثل امتدادًا لتنافس تاريخي بين الصفوية الإيرانية والسلطنة العثمانية لقرون خمسة غابرة، للسيطرة العسكرية بأبعادها المختلفة. ولا يفوت، في هذا المقام، الإشارة إلى ما تضطلع به المنطقة، في الحرب الراهنة، ضمن أدوار المتنافسين الدوليين وأطراف الصراع الداخلي.
تحولت المهمة المعلنة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في منطقة شرق الفرات من تحالفٍ لحرب تنظيم الدولة "داعش" إلى صراع مصالح بين أطراف الصراع الإقليمي، وفي سياق هذا الصراع دخل نظام الأسد وقسد وفصائل المعارضة على الخط.
ومع تهديد أنقرة بعملية عسكرية ألحق نظام الأسد بقوات "قسد" هزيمة سياسية أخرجتها من بعض خطوط التماس مع فصائل المعارضة الموالية لتركيا، وكانت روسيا وراء ذلك ولا تزال هي المتحكم في نشاط قوات نظام الأسد إلى جانب إيران، فيما برزت تركيا، مؤخرًا، لتلعب دورًا قويًا ومنافسًا يحقق لها توازنًا استراتيجيًا مع موسكو وواشنطن.
لقد كان الهدف الرئيس للولايات المتحدة من تدخلها العسكري، بجانب قسد، في سوريا، السيطرة على المنطقة، ولم تكن هنالك أولوية للدوافع السياسية من جراء سيطرة "داعش"، فأهمية المنطقة، بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي، سياسية وعسكرية؛ بالنظر إلى الشواغل الأمنية، التي تهدد الوجود الأميركي في العراق والمنطقة. وقد سبق أن احتلت العراق 2003، لتنفذ إلى الجزيرة السورية عبر اتفاقية مثيرة للجدل مع الأكراد، كان عنوانها البارز "محاربة الإرهاب"، إلا أن استمرار الوجود الأميركي في المنطقة بعد زوال داعش، كشف أن الهدف لم يكن سوى تحييد القوى الدولية والإقليمية عن المنافسة في هذه المنطقة.
ولفرض نفوذها في المنطقة، انتهجت واشنطن، استراتيجية ذات وجهين نقيضين، أولهما مستقل استقلالًا كاملًا عن قسد، والثاني ذو ارتباط محدود بها. ومن خلال الوجه الأول لهذه الاستراتيجية عملت واشنطن، بكل الوسائل، لما من شأنه تحقيق التكامل بين أهدافها الجيوسياسية في الجزيرة السورية والعراق، في سياق تطلعها لأن تحافظ على هيمنتها الدولية، أما الوجه الثاني للاستراتيجية، فعملت، من خلاله، على التظاهر أمام قسد، بمظهر "الأب "، الذي يحافظ على أبنائه ويعاقبهم أحيانا.
إزاء الأطراف الأخرى والحرب عمومًا، انتهجت واشنطن، خلال سنوات وجودها المستمر في سوريا (2014/2022)، استراتيجية هجومية، دفعت خلالها بالآلاف من المقاتلين، والأسلحة النوعية الثقيلة، ولم تقتصر هذه الاستراتيجية على العمليات البرية فحسب بل شملت الغارات الجوية، ومن بعد ذلك، شرعت في بناء قواعد عسكرية شرق الفرات، بالتعاون مع "قسد".
واعتمدت واشنطن في استراتيجيتها على أدوات القوة الخشنة، التي مثلتها وحدات من مختلف صنوف قواتها المسلحة، البرية والجوية، والقوات الخاصة، إلى أن تمكنت من إنشاء، وتدريب، وتسليح قوات "قسد"، التي تمثل الوكيل الراعي لمصالحها في شرق الفرات، وعززت وجودها بمجموعة من الأدوات الناعمة، في مقدمها المال السياسي، والعمل الإغاثي. ومنذ ذلك الحين، رُسِمت دوائر حمراء حول مناطق نفوذها، وباتت أطراف الصراع الأخرى تخضع للتفاهم مع واشنطن، كعملية نبع السلام التركية في أكتوبر العام 2019، حين سمحت للجيش التركي بالتوغل بين مدينتي تل أبيض ورأس العين بعمق 32 كم وحين تخطت روسيا هذه الدوائر واندفعت لشرق الفرات من خلال مرتزقة فاغنر في فبراير من العام 2018، استخدمت واشنطن القوة العسكرية الخشنة وقامت بتصفية كل المتسللين إلى المنطقة.
ومع بدء إعلان الرئيس الأميركي ترامب سحب قواته من سوريا، عام 2019، كانت الولايات المتحدة قد أوكلت مهمتها إلى "قسد" ومما لا جدال فيه أنه في كل مراحل التدخل الأميركي في سوريا، كان دورها واضحًا في إحباط أي محاولة تهيئ للاستقرار الدائم في المنطقة. فيما تنطلق المطامع الروسية في شرق الفرات، بدرجة أولى، من رؤية تنافسية مع واشنطن، على هذه المناطق، وتتركز أهدافها في المنطقة في الوقت الراهن، حول الأهمية العسكرية التي يمكن أن توظفها في مواجهة النفوذ التركي، من خلال وجود تعاون عسكري مباشر بين قوات نظام الأسد وقسد.
في هذا الاتجاه، لوحظ أن استراتيجية الروس في شرق الفرات، تمثل في الحضور العسكري المرافق لنظام الأسد، للحلول محل "قسد" المذعورة من العملية العسكرية التركية، وبرز التأثير السياسي الروسي من خلال نشاط الدبلوماسية الروسية، وقائد قواتها في سوريا، إثر العديد من اللقاءات بين نظام الأسد وقسد، لفرض موسكو نفسها في المنطقة؛ إذ تعد المشرف والضامن على تنفيذ أي اتفاقية. وبعبارة أخرى، تعمل على التقاسم المبكر لمكاسب الحرب في شرق الفرات، حين اكتشفت، في لحظة ما، أنها انشغلت عن هذه المناطق بالخوض في حرب ضد "داعش" في البادية السورية، وتركت واشنطن وتركيا تستأثر بشرق الفرات، وفقا لمصالحهما الخاصة.
مثلما تحاول حكومة الأسد، السيطرة التدريجية على المنطقة، إلى أن يجري استعادتها كاملة، فإن "قسد" تستميت في التشبث بها سعيًا منها لأن تكون مركزا لنفوذها
يقتصر الصراع الراهن في شرق الفرات، من حيث هوية أطرافه الداخلية، على "قوات قسد" الانفصالية، ونظام الأسد، وفصائل المعارضة السورية، إلا أن فصائل المعارضة، بوصفها عدوًا مشتركًا لهذين الطرفين، فقد ارتبطا بطريقة غير مباشرة في هذا الصراع؛ حيث يمثل تحالفهما فرصة لإضعاف المعارضة، وتوظيف النتيجة في اتجاه مشروع الأسد، وحليفته إيران التي كان هدفها من السيطرة على جزء من شرق الفرات، خلق تكاملا في نفوذها وسيطرتها بين الحدود مع العراق من جهة، والمناطق الداخلية السورية، التي تتحكم فيها، من جهة أخرى. ومثلما تحاول حكومة الأسد، السيطرة التدريجية على المنطقة، إلى أن يجري استعادتها كاملة، فإن "قسد" تستميت في التشبث بها سعيًا منها لأن تكون مركزا لنفوذها بعد وقوع الانفصال الذي تسعى إليه وفق أدبياتها السياسية.
فيما تثابر فصائل المعارضة بأجندة تركية، في جعل السيطرة على مناطق في شرق الفرات منطلقًا للخطوة التالية، بوساطة القوة الخشنة وقد مثلت عملية "نبع السلام" 2019، صورة واضحة لخيار القوة التي تعتمد عليها المعارضة، لفرض إرادة تركيا السياسية؛ حيث انتزعت تل أبيض ورأس العين بالقوة من قبضة قسد، ولا يزال التلويح بعملية عسكرية للمعارضة الموالية لتركيا قائمة بقوة كذلك، ومن المؤكد أن ملف شرق الفرات أكثر الملفات سخونة على طاولة سوتشي في لقاء أردوغان/بوتين في الخامس من الشهر الجاري..
غير أن تعارض الأهداف الحقيقية لأطراف الصراع الدوليين، جعلت من شرق الفرات مكانا للتنافس، لاستكمال أجنداتهما الحقيقية من التدخل في سوريا.