الصراع على سورية المستقبل

2018.10.04 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في محاولة لفهم ما تمر به سورية من تعقيدات وتشابكات في المصالح الإقليمية والدولية اليوم، لا بدّ من العودة إلى بداية تشكل الدولة السورية منذ بدايات القرن الماضي، وما تعرض له البلد من أحداث، وما أفرزته تلك الأحداث والظروف من سلطات، وعلاقتها مع تلك الدول الكبرى التي تتصارع على سورية.

تشكلت الدولة السورية مع دخول الملك فيصل إلى دمشق، في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1918)، والمؤتمر السوري العام في باريس (1919-1920)، حيث تمخض عنه أول دستور سوري يتضمن الحفاظ على الحريات العامة والخاصة، ويؤسس لحياة سياسية في البلاد، لكن هذه التجربة لم تدم بسبب السياسة الاستعمارية لفرنسا، التي كان من نصيبها سورية بموجب اتفاق سايكس بيكو 1916، والذي انسحبت منه روسيا، التي قامت فيها ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1917 من دون مكاسب، وكان لها الفضل في الكشف عن ذلك الاتفاق قبل إعلانه رسمياً.

تكرس الاحتلال الفرنسي بقرار من عصبة الأمم عام 1922، يفوّض فرنسا بالانتداب على سورية

تكرس الاحتلال الفرنسي بقرار من عصبة الأمم عام 1922، يفوّض فرنسا بالانتداب على سورية، هذا الاحتلال/ الانتداب الذي اقتطع جزءاً من الأراضي السورية لصالح الجارة تركيا أتاتورك عام 1923، وقسّم سورية إلى دويلات طائفية ومناطقية، ترك آثاراً ما تزال جوانبها الكارثية مستمرة حتى اليوم. فعلى الرغم من أن فرنسا أدخلت تجربة سياسية "ديمقراطية" من انتخابات وأحزاب، فقد اعتمدت في تأسيسها لنواة "الدولة" السورية على جيش مؤلف من الأقليات، والمعروف بجيش الشرق، وغالبيته من الأقليات، حيث أصّلوا فيه بذرة النزوع نحو السيطرة والتمايز عن الأغلبية، وبالتالي توجهه نحو العداء للحياة السياسية المدنية. والانقلابات في سورية شاهد واضح.

بعد الاستقلال، دخلت سورية في عهد الرئيس شكري القوتلي، الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وكانت النتيجة الهزيمة المدوية لأغلب الجيوش العربية، والتي ردّ عليها وريث جيش الشرق بأول انقلاب برئاسة حسني الزعيم، وظلت تتالى الانقلابات، حتى العام 1954، لتدخل سورية فترة استقرار نسبي وحياة سياسية ديمقراطية، انتهت مع الوحدة السورية المصرية عام 1958. 

عاودت الانقلابات إلى سورية عام 1961 (الانفصال)، تلاه انقلاب 8 آذار 1963، بتشجيع من بعض رجالات السياسة ذوي النزعة الانقلابية، لينهوا بشكل قاطع محاولة سورية التي بدأها الليبراليون نحو الدخول في تجربة ديمقراطية، بعد ذلك في عام 1966، جاء انقلاب البعث الصرف ليعزز نزعة الأقليات في الجيش، من خلال اللجنة العسكرية في حزب البعث، وبخطاب شعبوي يساري دخل حرب 1967 مع إسرائيل التي اجتاحت أربع دول عربية في أقل من أسبوع، وليعلن من خلالها وزير الدفاع حافظ الأسد تسليم القنيطرة قبل دخول الإسرائيليين إليها، وهو ذاته الذي سيطيح برفاق الأمس ويزجهم في السجون حتى مماتهم في انقلابه عام 1970 ليكرس سيطرة الطائفة، ومن بعدها سيطرة العائلة الأسدية.

تلقى حافظ الأسد دعماً عسكرياً واسعاً من الاتحاد السوفييتي عام 1972، ليدخل حرب تشرين الأول 1973، التي حركت الأوضاع، وانتهت بعقد اتفاق توسط فيه هنري كيسنجر مع إسرائيل عام 1974، وهو الاتفاق المعروف باتفاق فك الاشتباك، حيث لم تُطلق رصاصة من بعده نحو إسرائيل.

وتتالت الحروب الأخرى التي لم تكن أكثر من تفاصيل في مسيرة النظام السوري

الحدث الثاني في مسيرة الأسد، كان دخول الجيش إلى لبنان، واستيلاءه عليه من خلال تفويض أميركي يقتضي بتدمير الحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتتالت الحروب الأخرى التي لم تكن أكثر من تفاصيل في مسيرة النظام السوري، ليخرج من لبنان بعد اغتيال الحريري، حيث ضغطت المواقف الأميركية والأوروبية لتجبره بين عشية وضحاها على مغادرة لبنان عام 2005، بعد أن أنهى عملياً الوجود الفلسطيني وأضعف الحركة الوطنية، وجعل من سورية قناة لتسليح إيران لحزب الله، الذي سيرد له هذا الموقف بدعمه وقتاله لجانب النظام في حربه ضد السوريين بعد اندلاع الثورة.

ما يهم من هذا الاستعراض التاريخي هو أن "الدولة" السورية التي تشكلت بعد الاستقلال فقدت وظيفتها التي أُسست بشأنها، وهي حماية الحدود الشمالية لإسرائيل من جهة وتفكيك النسيج الوطني من خلال سياستها الطائفية في عهد البعث عموماً والعائلة الأسدية خصوصاً، وإعاقة أي إمكانية لتطور التجربة الديمقراطية في البلاد.   

بعد اندلاع الثورة السورية، لم تقف الدول الإقليمية والدولية موقف المتفرج مما يحدث، فكان منها من أيّد النظام بقوة وخاصة إيران وروسيا، ومنها من أيّد المعارضة بشروط، ومن خلال هذا الدعم المحدود أوجدت تلك الدول ركائز عسكرية وسياسية لها في سورية، حيث حولت تلك الدول سورية إلى ساحة تصارع ومعارك من أجل تحقيق نفوذ أكبر، لكن هذه المرة على حساب الدم السوري الذي أفرط النظام وروسيا وإيران في إهداره.

لم تسعَ الدول، وخاصة ما كان يُعرف بأصدقاء سورية، لممارسة ضغط جدي على روسيا وإيران لإجبار النظام على الدخول في مفاوضات جدية

لم تسعَ الدول، وخاصة ما كان يُعرف بأصدقاء سورية، لممارسة ضغط جدي على روسيا وإيران لإجبار النظام على الدخول في مفاوضات جدية تفضي إلى عملية انتقال سياسي نحو نظام ديمقراطي، بل تركت روسيا تتصرف وكأنها اللاعب القوي لتفرض مساراً بديلاً لمسار الحل السياسي في جنيف، فكانت اجتماعات آستانا وسوتشي، بالتشارك بين روسيا وتركيا وإيران التي أسست لمناطق خفض تصعيد، لم يسلم منها سوى الريف الشمالي لحلب وإدلب، التي أجّل الاجتماع الأخير في سوتشي بين روسيا وتركيا الهجومَ عليها إلى فترة أخرى.

ما تجلبه تلك الاتفاقات المؤقتة بين الدول هو ضمان عدم الاستقرار، مع إمكانية تجدد القتال في أي وقت، طالما أنها تتجاهل مطالب السوريين بتحقيق عملية انتقال سياسي يضمن مشاركة وقبولاً شعبيين في تقرير شكل الحكم في بلدهم. ولربما تعيد إلى الذهن تلك الاتفاقات السرية التي حدثت قبل مئة عام وما رافقها، والمعروفة باتفاقية سايكس بيكو، لكن بشكل جديد ولاعبين جدد وقدامى، وبثمن باهظ من الدم السوري.

ما يحتاجه السوريون هو ممثل حقيقي لمطالبهم، يدرك حدود العلاقة مع الحليف، وإلى حليف دولي يتفهم مطالبهم إضافة إلى مصالحه، وغير ذلك فليس أمامنا سوى عدم الاستقرار والسير باتجاه تكرار الماضي لكن بشكل كارثي.