الصراع القادم في سوريا المفيدة

2019.05.02 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد ثماني سنوات من انطلاقة الثورة التي حوّلها طغاة العالم -صغاراً وكباراً- إلى صراع على تقاسم النفوذ من جهة، وإلى حرب على الإرهاب من جهة أخرى؛ صار علينا أن نتحدث عن أكثر من سوريا بحكم الأمر الواقع، أو عن "سوريات"، كمناطق نفوذ وأنظمة تعليم وشرطة، وشبه حدود تفصل بينها معابر وأنظمة جمركية وغيرها من أشكال بناء الإمارات أو الكيانات، وإحدى هذه الكتل ما يُعرف باسم "سوريا المفيدة" -وعملياً هي سوريا اللامفيدة- وهي المنطقة التي تقع تحت سيطرة النظام شكلياً، وتحت النفوذين الروسي والإيراني عملياً.

بشكل أو بآخر، انتهت الحرب على "الإرهاب" في المناطق التي يسيطر عليها النظام منذ عام 2018 كما يدّعي القائمون على الأمور فيها، بعد استعادة الغوطة ومناطق درعا وريف حمص وتهجير أهلها، أو من رفض منهم البقاء وإجراء التسوية مع النظام والروس، إلى مناطق شمال سوريا، وعلى ذلك؛ يترتب على النظام وداعميه الاهتمام بترتيب تلك المناطق وإعادة توزيع السيطرة عليها، أي تقاسم النفوذ فيما بينهم، وهو الأمر الطبيعي بالنسبة لقوى احتلال مباشر ولكن بالوكالة من خلال الميليشيات التابعة لكل طرف.

كان انخراط القوى المهيمنة (روسيا وإيران) في تلك المنطقة، منذ بداية الثورة، يصبّ في مصلحة النظام، بشكل مباشر، عبر الميليشيات التي أسسوها، فكانت القضية بالنسبة إلى إيران معركة تحدد مصير المنطقة، وبالتالي مصير إيران ووكيلها حزب الله اللبناني، الذي كان أول المتدخلين عسكرياً في معركة القصير في نيسان 2013، ومن ثم تبعها تأسيس الميليشيات المتعددة الشيعية من بلدان عدة (أفغانستان والعراق وباكستان ولبنان) إضافة إلى الميليشيات المحلية، التي وصل عددها في بعض التقديرات إلى قرابة مئة ألف مقاتل، وكلها تحت توجيه وإشراف الحرس الثوري الإيراني، وقد لعبت تلك الميليشيات دوراً مهماً في استعادة المناطق التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة.

تتألف غالبية القوات على الأرض من الميليشيات الإيرانية، في الوقت الذي شهد فيه جيش النظام تناقصاً كبيراً في تعداده لأسباب عدة، منها تزايد أعداد القتلى في صفوفه، وهروب كثير من الشبان من أداء التجنيد الإجباري

ورغم أن التدخل الروسي المباشر في أيلول 2015 وفّر سيطرة جوية، وألحق دماراً هائلاً بالبلاد والعباد، فإنه لم يكن كافياً لجعل الهيمنة الروسية مطلقة، حيث تتألف غالبية القوات على الأرض من الميليشيات الإيرانية، في الوقت الذي شهد فيه جيش النظام تناقصاً كبيراً في تعداده لأسباب عدة، منها تزايد أعداد القتلى في صفوفه، وهروب كثير من الشبان من أداء التجنيد الإجباري، ناهيك عن المناطق التي خرجت عن سيطرته، حيث تجاوز تعداد الميليشيات عدد قوات النظام، وهو ما يعطيها أرجحية على الأرض.

دفعت هذه الحالة الروسَ إلى استجلاب قوات برية لتعزيز هيمنتها الجوية بسيطرة على الأرض، فاستجلبت الشرطة العسكرية التي صار لها الدور المهيمن في كثير من المدن المستعادة من خلال التدمير، إضافة إلى قوات كبيرة من المتعاقدين الروس (المرتزقة) التابعين لشركة فاغنر لتجنيد المرتزقة، ومؤخراً في نهاية عام 2016، عملت على تأسيس الفيلق الخامس تحت هيكيلة الجيش كغيره لكن تحت قيادة وتدريب روسيين، مستغلة حالة الشباب الذين بقوا في مناطق التهجير والمصالحات التي فرضتها روسيا بحيث كان هذا الفيلق بمثابة المنقذ، ولو مؤقتاً، ناهيك عن أنه مصدر للرزق.

مع خمود المعارك في تلك المنطقة من أواسط عام 2018، دخلت سوريا "المفيدة" مرحلة جديدة، مرحلة من الصراع بين تلك الميليشيات ومن خلفها القوى الراعية، وهو الميدان الذي من خلاله سيتقرر مصير سوريا المفيدة.

يُغذي هذا الصراع رؤى سياسية مختلفة، حيث تقوم رؤية روسيا على أنها لاعب مهم في المعركة ضد "الإرهاب" ويحق لها أن تكون شريكاً في تقرير مصير النظام الدولي، وبالتالي صانعة للسلام من خلال مسارات آستانا وسوتشي الموازية لمحادثات جنيف، والتي تطمح في أن تكون بديلة لها في النهاية كأمر واقع، مما يجعلها أحد المقررين لنهاية التصارع على سوريا، ناهيك عن خلق امتيازات وقواعد طويلة الأجل في مياه المتوسط.

مع خمود المعارك في تلك المنطقة من أواسط عام 2018، دخلت سوريا "المفيدة" مرحلة جديدة، مرحلة من الصراع بين تلك الميليشيات ومن خلفها القوى الراعية، وهو الميدان الذي من خلاله سيتقرر مصير سوريا المفيدة.

تشارك روسيا مع إسرائيل في صراعها مع إيران، وما تظهره من غض طرف (إن لم يكن اتفاقًا) عن الضربات الإسرائيلية لمواقع إيران والميليشيات التابعة لها في سوريا يظهر تماماً عدم ممانعتها بهذا الدور لإضعاف النفوذ الإيراني، ومن خلال هذا الموقف تطلب الود الأميركي كشريك غير مباشر في محاربة النفوذ الإيراني، وهو الموقف الذي يفتح أمامها الباب، لبناء علاقات تجارية وسياسية مع دول الخليج المتخوفة دائماً من إيران وطموحاتها.

أمام تلك التصورات الروسية، تبرز رؤية إيران التي تتمثل في المحافظة على نفوذها في سوريا، وضمان إمداد عميلها حزب الله في لبنان، من خلال سعيها الحثيث لتأمين الطريق البري الواصل بين طهران ودمشق مروراً ببغداد، تحت غطاء زائف من التبريرات في محور "المقاومة".

تدرك إيران جيداً أن تجربتها في لبنان أولاً ومن ثم في العراق غيرُ قابلة للتطبيق، لسبب بسيط هو أن نسبة الشيعة -وهم القاعدة التي اعتمدت عليها في البلدين- غير متوفرة في سوريا (نسبة الشيعة حوالي 1 في المئة) مما يجعلها تدافع بشراسة عن الميليشيات المحلية والأجنبية التي استجلبتها لسوريا، ومحاولة إدماجها في هياكل ما تبقى من تشكيلات جيش النظام، وبخاصة الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، فضلاً عن توغلها في الأجهزة الأمنية، بحيث يحفظ لها ذلك وجوداً مباشراً وسط المطالبات الدولية بإخراج الميليشيات الأجنبية من سوريا.

يتضح صراع القوتين (روسيا وإيران) من خلال تعاملهما مع الأسد كشخصية ظرفية مؤقتة، ومن خلال جلبه لكلا البلدين بشكل مذل ومهين، وذلك لإضفاء "شرعية"، على عملية تقاسم النفوذ والجغرافيا والثروة

يتضح صراع القوتين (روسيا وإيران) من خلال تعاملهما مع الأسد كشخصية ظرفية مؤقتة، ومن خلال جلبه لكلا البلدين بشكل مذل ومهين، وذلك لإضفاء "شرعية"، على عملية تقاسم النفوذ والجغرافيا والثروة، بدءاً من مناجم الفوسفات ومعامل الأسمدة، وصولاً إلى المطارات والمرافئ البحرية، فضلاً عن القواعد العسكرية المباشرة. وتستغل روسيا في ذلك أنها وقواتها المرتزقة أتت بطلب رسمي من سلطة الأسد "الشرعية"، بينما لا تتمتع الميليشيات التي أسستها إيران بمثل هذه الشرعية التي تسعى إيران لإضفاء الطابع الشرعي عليها، من خلال محاولة دمجها في تشكيلات جيش النظام.

والأمر الذي يعطي أفضلية لروسيا في هذا الصراع الذي تلوح علاماته في الأفق هو التوافق إلى حد بعيد مع التوجه الإسرائيلي في الحد من النفوذ الإيراني، وصولاً إلى إخراجها من سوريا، كما يلاقي موقفها تقاطعاً وترحيباً من الإدارة الأميركية التي صنفت الحرس الثوري منظمة إرهابية، وفرضت حظراً على صادرات النفط الإيراني -المورد الأساسي لإيران- مما يضعف إمكانية إيران في الصمود أمام كل هذه الضغوطات. فهل ستشهد المرحلة المقبلة سقوط المشروع الإيراني وأدواته الإجرامية: الميليشيات الطائفية، نتيجة للصراع مع شريكه في الاحتلال من جهة، والمواقف الأميركية والإسرائيلية من جهة أخرى؟

كلمات مفتاحية