الصراع الأميركي الصيني وانعكاساته على المنطقة

2021.06.18 | 07:39 دمشق

kwrwna-fy-zl-alsra-alaqtsady-byn-alsyn-wamryka.jpg
+A
حجم الخط
-A

فرض الصّراع ضدّ الصّين نفسه كأولويّة مطلقة للسّياسة الأميركيّة في عهد بايدن.

أبرز ما خرجت به قمة الدّول السبع الكبرى التي قادها كان التّحذير من الخطر الصّينيّ وضرورة تدبير السّبل الكفيلة بمواجهته والحد من أخطاره.

سبق أن استُعمل هذا الخطاب في عهود رئاسيّة سابقة، ولكنّه غالبًا كان يرتدي صيغة التّخويف في إطار صناعة العدو التّي تحترفها آلات الدّعاية الأميركيّة.

ما يجري الآن يختلف تمامًا عن كل ما سبق، لأنّه يأتي في ظروف حرجة ومعقدة، مع استمرار تأثيرات جائحة كورونا وما تسبّبت به من انكماش للاقتصاد العالميّ، ومن خسائر كبرى لقطاعات إنتاجيّة عريضة، وفي ظل توتّرات سياسيّة وأزمات حادّة في كل مناطق الوجود الأميركيّ، والتي تجبرها على إعادة إنتاج حضورها وتموضعها.

كلّ هذه الظّروف المتشابكة تدفع للنظر إلى هذا الصراع بوصفه العلامة التي سوف تطبع القرن الواحد والعشرين، والّتي بدأت ملامحها وعناوينها تظهر وتكشف عن التّباين الضّخم في النّظر إلى الاقتصاد والأمن والإنماء بين القطبين.

المبادرة التي تسوّق لها الصين والتي أطلق عليها اسم "الحزام والطّريق"، تقوم في جوهرها على إعادة العمل بطريق الحرير التّجاري القديم الّذي يصل آسيا وأوروبا، وفتح الباب أمام حرية تبادل البضائع والاستثمارات. لا يتضمن المشروع الصيني عناوين إنمائية وتطويرية بشكل عام، بل يشدّد على الجانب التجاري بشكل خاص.

في المقابل فإنّ المشروع الأميركي "نحو بناء عالم أفضل" إنمائي في جوهره، وهو يهتم بوضع خطة عالميّة لتطوير البنى التّحتيّة، ويعنى بالاستثمار في شؤون المناخ والصّحة وتفعيل القطاعات الرّقميّة، ويهتم بمحاربة التّفاوت الاجتماعي.

تؤمن إدارة بايدن أنّه من الممكن توفير الأموال الضّخمة اللّازمة لتنفيذ مثل هذا المشروع عبر القطاع الخاص، كما تؤيّد فرض ضرائب عالية على الشّركات العالميّة الكبرى واستعمالها لتمويله، على أن تدفع كل شركة الضّريبة لصالح البلد الذي تستثمر فيه.

وكان لافتا أنّ روسيا لم توضع في رأس قائمة التّهديدات الّتي تستوجب أولويّة المواجهة، بل اقتصر الأمر على الصّين، وتمّ التّعامل مع روسيا كخطر جانبي. لم تسفر القمة بين بوتين وبايدن عن عناوين خلافيّة عريضة، بل بدت أشبه بلقاء تعارفيّ وديّ وتعبير عن نوايا حسنة أسفر عن اتفاق على عودة السّفراء وإعادة الدّبلوماسيّين المطرودين من الجانبين.

السبب الّذي قد يفسر ضعف الاهتمام الأميركي بالشأن الرّوسي في هذه الفترة، يمكن إرجاعه إلى عنوان عريض هو طبيعة التّوجه الرّوسي عموما، والّذي لا يزال يركن إلى الأساليب البدائيّة في الاقتصاد والأمن والسّياسة والتّكنولوجيا.

المقصود أنّ روسيا لم تتغرّب بعد، وتاليا فإنها تمثّل نظامًا يستنزف نفسه بنفسه وتتعمّق الفجوة بينه وبين العالم المعاصر الأميركي النزعة يومًا بعد يوم، في حين إن خطورة الصّين تكمن في محاولتها، ولو الفاشلة حتى هذه اللحظة، في سلوك درب التغريب في الاقتصاد والتّكنولوجيا.

طغيان الاقتصاد على العنوان الصّراعي يعني أنه لا بد في المرحلة القادمة لأيّ طرف يطمح لاحتلال موقع صدارة العالم أن يكون قادرًا على صناعة الاستقرار اللّازم لتأمين سيولة الاقتصاد.

بدأ أثر هذا العنوان بالتّجلي في القراءة الأميركيّة لصراعات المنطقة والعالم، وميلها إلى تكريس الحلول السّلميّة عبر الاتفاقات، والعمل على لجم الّسلوكات الانتحاريّة والتّصعيديّة.

الموقف الأميركي من نتنياهو وخطابه الحربي كان لافتًا، وكذلك مساعيها للجم التّغول الإيرانيّ والعمل الجاد على استعادة علاقتها بأوروبا التي كانت قد شرعت بالتّفكك في عهد ترامب وتكريس مكانة أميركا في العالم بوصفها الدّولة الرّاعية للّسلم العالميّ والأمان الاقتصاديّ الدّولي وبناء مكانتها القياديّة انطلاقا من هذه العناوين وليس من خلال التّفوق العسكري.

لا تمتلك الصين الطرح نفسه، بل لا تزال تعمل على لغة الأرقام والحسابات المباشرة، فهي تعتقد أن فتحها لدروب تجارة عالميّة يمكنه أن يضخ في خزائنها الكثير من الأموال ويسهم في تكبير حجم اقتصادها وتمكينها في لحظة ما من التفوق على أميركا انطلاقا من هذه المعايير.

الرّؤية الّتي ينطلق منها تهمل الأساسي والجوهري في الصّراع على الريادة العالميّة وهو ارتباطها بحاجة الناس إليها وقدرتها على التّعبير عن طموحاتهم وآمالهم وشكل العيش الّذي يشتهونه.

من هنا قد تجد أميركا منافحين كثراً عن مشروعها في حين لا تستطيع الصّين كسب الكثير من الحلفاء، وأبرز دليل على ذلك علاقتها الملتبسة مع روسيا ومع إيران الّتي تسبب دخولها الميداني على خط الاستثمار فيها بأزمة حادة داخل النّظام الحاكم نفسه، لأنّه يرتدي شكل احتلال اقتصادي مقابل حماية ورعاية، لم يثبت استفادة إيران منهما في صراعها التّفاوضي.

وعليه فإنّ دور صناعة الاستقرار لم يعد دورا اختياريّا للدّولة الرّاغبة في الوقوف على قمة العالم، بل فرض نفسه كدور إلزامي.

 ولعلّ أميركا قد قطعت شوطًا متقدّمًا في العمل على تدبير شؤون استقرار قد لا يكون سريعًا، وقد يأتي بعد أن تكون منطقتنا بشكل خاص لم تعد مؤهلة لإعادة إدماجها في العالم من جديد.

الفكرة من كلّ هذا الطرح أنّ العالم الذي يحيا الآن فترة تصعيد وتوتير، يميل في الفترة القادمة إلى خلق شكل جديد من المكانة والسلطة الّتي تبنى على أساس التّقدم التّكنولوجي والاقتصادي وزيادة الاهتمام بحقوق الإنسان والحريات والنمو .

تباشير هذا التّوجّه بدأت تظهر في تركيب العلاقة الأميركية مع نظام الأسد وفي الإصرار على تفعيل قانون قيصر وفي عدم الاعتراف الأميركي بشرعيّة الانتخابات السّورية، وفي السّعي لإجبار إيران، إذا ما أرادت رفعا كاملًا للعقوبات القاسية عليها على توسيع حدود الاتفاق ليشمل الصّواريخ البعيدة المدى والميليشيات التّابعة لها، وفي حرصها على منع لبنان من الغرق التام، ودعم مؤسّسة الجيش في إطار تجنيب البلد السّقوط التّام.

كل هذه العناوين قد تشكّل مسارا يمكن البناء عليه ولكنّ السّؤال الأبرز هو هل يوجد في المنطقة تيارات سياسيّة قادرة على التّفاهم مع متغيرات العالم ومساراته؟

 يجيب إصرار إيران على الدّفع بشخصية متشددة على غرار رئيسي إلى واجهة المشهد على هذا السؤال، وكذلك إغراق لبنان في الانحلال الأمني والاقتصادي، والمحاولات اليائسة لانعاش نظام الأسد عربيّا وروسيّا مع ما يعنيه ذلك من إعادة إنتاج الأزمات وتوكيدها.

قد يصل العالم إلى انتاج لحظة استقرار، وربما تكمن مصلحة الدول القيادية في الاستثمار في السّلام في المرحلة القادمة ولو بعد فترة من التّصعيد، ولكن منطقتنا لا يبدو أنها مستعدة لملاقاة هذه المسارات والاستفادة منها، لذا فإنّ السقوط المحتمل لا يرتبط بالخروج من دائرة اهتمام العالم، ولكن في الخروج من العالم ومن لحظته ومن مستقبله، ما يعني حكما الخروج من التّاريخ.