الشيخ شعبان منصور بديلاً

2018.10.08 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

على أعتاب الثمانين من العمر وصلت الشهرة إلى رجل لم يهدف إلى الحصول عليها. فقد قضى معظم حياته مزارعاً في قرية مغمورة في سهل الغاب، قبل أن يتجه إلى تشجيع أبناء المنطقة على الإسهام في إنشاء مرافق عامة يشارك بيديه في العمل فيها كل يوم في مدينته سلحب، حتى استكمل بناء مبرّة لاستضافة التعازي، ومدرسة ابتدائية، ومديرية للنقل، فيما توضع اللمسات الأخيرة، الآن، على مشروع بناء مشفى كبير.

في لقاءاته التلفزيونية القصيرة أثناء تغطيات القنوات الرسمية، لا يقول شعبان منصور إنه يريد تكريم ذكرى شيخه، عبد الهادي حيدر، عبر إطلاق اسم ابنه «الشهيد» النقيب صالح، الذي قتل قرب دمشق عام 2012، على المشفى. بل يصرّ أنه هدية «للإنسانية»، وهي من المفردات المتكررة في الكلام الغامض القليل الذي يرد على لسانه، إلى جانب «مكارم الأخلاق» وشعاره الشهير «كن مع الله ولا تبالِ».

خلال السنتين الأخيرتين تنامت شعبية الشيخ.. ولم تقتصر على زوار علويين من أبناء المنطقة، وسواها، قاصدين التبرك وطلب الدعاء منه والمشاركة الرمزية في عمله، بل تعدتها إلى زيارة وفد وزاري كبير يتقدمه رئيس مجلس وزراء بشار الأسد، فضلاً عن زيارات بعض الوزراء فرادى، والمفتي العام أحمد حسون، والجنرال سيرغي كورالينكو نائب قائد القوات الروسية في سورية، والعميد سهيل حسن (النمر) الذي ينتمي معظم مقاتليه إلى هذه المنطقة من وسط البلاد، وعرف عنه إجلال مشايخ الطائفة.

واللافت مؤخراً هو تقديم الكثيرين لشعبان منصور في مواجهة الفهم الشائع لمرسوم وزارة الأوقاف، بالتزامن مع غضبة عارمة، في بعض الأوساط، على مقاطع محافِظةٍ رائجةٍ للشيخ الدمشقي محمد خير الشعال.

«الشيخ شعبان لحاله وزارة أوقاف»

«الشيخ شعبان لحاله وزارة أوقاف»... «بل أوقاف وتربية وصحة ونقل»... «هذا الشيخ يمثلني، لا دواعش الداخل الذين كانوا يخربون الوطن فيما هو يبني»... «إنه شيخٌ جامعٌ كما قال المفتي» الذي استُحضرت صور زيارته لمنصور وجرى تداولها على نطاق واسع، مع تصريحٍ لحسون يحضّ على بناء المدارس والمشافي لا المساجد.

يمكن استدعاء نمط الشيخ في مواجهة نماذج عديدة، في الحقيقة. فبزهده يغدو نقيضاً للمشايخ الذين يحابون الأغنياء في أعيادهم سعياً للحصول على مال الزكاة، وهو نوع يلقى ازدراء بين العلويين. وباتجاهه إلى العمل المجتمعي الطوعي يبرز على الضد من المسؤولين، الفاسدين حكماً، بترفهم وسياراتهم ومرافقاتهم. وبمنزله المتواضع ذي الأثاث البسيط يبدو «قديساً» بالمقارنة مع الشيوخ أصحاب الكروش. وبملابسه شديدة العادية، والسيجارة في فمه عبر مبسم خشبي، وكأس الشاي أمامه على التراب، يصبح نموذجاً عن الاستخفاف بمعايير «الدنيا» وأهلها.

غير أن جاذبية منصور لدى جمهوره تستحق تحليلاً أعمق من هذه الملامح الشخصية، على أهميتها، وخاصة في الموقف الأخير المتعلق بوزارة الأوقاف ودور رجال الدين في المجتمع السوري. فبعد شيوع التعليم بين العلويين صاروا أقل ميلاً لتقبل ضوابط «شرعية» على السلوك الشخصي من أي مصدر جاءت.

وباطرادٍ صار نمط الشيخ المطلوب لديهم هو هذا تماماً، من يحض على «مكارم الأخلاق» دون أن يحددها، تاركاً التفسير للاجتهاد الفردي، مع إطارٍ عام من الهدف إلى «النفع العام»، مما هو من كلاسيكيات خطاب العلمانية الشعبية التي تريد أن تحل مسائل الدين والدنيا بجملتين ثم تعود إلى الطاولة لتشرب نخب السهولة التي تلقى، هذه المرة، دعماً كاملاً من «شيخ» هو أقرب إلى الجد أو الأب أكثر مما يشبه الأشكال المهيبة لصور المعممين ومكتباتهم في الخلفية، سواء أكانوا علويين أو شيعة أو سنّة. المطلوب من أي شيخ الآن، وخاصة في «الأزمة» التي تصاعدت فيها علامات التدين الرمزي عند العلويين، هو البركة والدعاء بقصد حماية الأسر والمنازل وعودة المفقودين ونجاة المقاتلين. وهو بالضبط ما يطلبه النظام من الطائفة؛ علاماتٌ دون تدين، وشعورٌ عصبوي جماعي دون اجتماعٍ إلا عليه.

يقدّم الشيخ شعبان، فطرياً ودون أن يقصد، أكثر من ذلك. إنه لا يدع «ما لقيصر لقيصر» فقط، بل يجمع ما تبقى لدى الرعية من مال قليل وجهد فائض ليسخّرهما في خدمة القيصر ودولته. بين العاملين المتطوعين يبرز اللباس المموه بشكل لافت، لأن كثيراً منهم جنود وضباط في القطع العسكرية ومجموعات المقاتلين المجاورة، يستغلون هدوء الجبهات ليسهموا في عمل خير يأملون أن يمنحهم الوقاية في الأيام الصعبة.

الكثير من زعماء الشبيحة المحليين يودعون في صندوق المشفى مبالغ كبيرة تكفيراً عن سيَرهم الشائنة

يقدّم الزوار الروس سلالاً إغاثية للبنّائين عند زيارتهم. وشاع في المنطقة أن الكثير من زعماء الشبيحة المحليين يودعون في صندوق المشفى مبالغ كبيرة تكفيراً عن سيَرهم الشائنة في الخطف مقابل فدية وابتزاز سيارات البضائع والركاب المارة عبر الطريق الوحيد وسط البلاد. يحدث هذا عضوياً وبشكل طبيعي، لم ينظّمه منصور الذي لا يهتم لأمر المال ولا يمنح صكوك غفران. لكنه ربما كان الشيخ الفريد في العالم الذي قاد متطوعي الأهالي والمتبرعين من «أهل البر والإحسان» لبناء «شعبة تجنيد» وإهدائها إلى وزارة الدفاع، سنة 2010.

في العام التالي ستندلع «الأزمة».. وستخلّف في سلحب مئات «الشهداء» من الشبان والرجال الذين عبروا هذه الشعبة باتجاه مدن وقرى عديدة وبعيدة، قتلوا فيها الكثيرين لأسبابٍ يصعب القول إنها «إنسانية»!