الشيباني الحب والجنرالات

2020.09.05 | 00:04 دمشق

837735b8-d963-4166-88a7-c2ab6d244779.jpeg
+A
حجم الخط
-A

منذ البدايات عهدنا أن نعرِّف الموريتانيين بأمة الشعراء ومعقل البلاغة، لكننا حديثاً بدأنا نقرؤهم كروائيين، ينقلون لنا عوالمهم الساحرة، التي يتعانق بها الشعر مع المنطق، والفلسفة مع التهويمات الصوفية، وعوالمها الأسطورية ببحار الرمال الممتدة، والفقه والعقيدة الإسلامية بتنويعاتها الموريتانية.

يحدثنا الروائي الموريتاني أحمد فال عن الأسواق الموريتانية التي يجهلها معظم المشرقيين عندنا، عن الأسواق والمطاعم والمكتبات، عن عوالم "المحاظر الموريتانية" التي يتعلم فيها الفتيان علوم اللغة والمنطق والفقه، بطريقةٍ محببة، حيث للمتعلم مطلق الحرية في اختيار معلميه، ومادة التعلم ووقته، فلا يكره على ذلك، إنما يتلقاه بحبٍ وتشوفٍ يفسر لنا ولع الشنقيطيين به، وقدرتهم العالية على الحفظ.

 تعرّفنا الرواية على تلك الواحات التعليمية المفتوحة، التي طالما بقيت تنشر المعارف العربية، بتنوعها الغني في جنبات تلك الصحراء، التي يعيش فيها رجالٌ ملثمون، يكتب الطلاب فيها دروسهم على ألواح خشبية، بحبرٍ محلي، وحين ينتهون من حفظها يعيدون غسلها بالماء، ويجففونها ليتمكنوا من الكتابة عليها ثانية.

تأخذنا رواية الشيباني إلى عوالم، باتت غريبةً عن عوالمنا الصاخبة اليوم، فهي تتهادى على تموجات المعاني والقصائد، والتحليق في عادات الرجال وجلسات السمر، والأحاديث التي تزينها القصائد والأشعار، ينقلك من عناء المحبين والعاشقين، إلى عالم يصنف الرجال فيه حسب أنسابهم، والويل لمن ضاع نسبه أو جرت الأحاديث في خفض شأنه.

الشيباني فتىً ألمعي، كان اسمه يتردد في ردهات الجامعة، وهو يشرح لأقرانه ما استغلق عليهم فهمه، وينثر لهم من مكنون معارفه، الأمر الذي أغاظ الحاسدين، فأذاقوه من دنيء مكرهم، حتى تصوحت أماله بحب "سلمى" زميلته في الجامعة، بعد أن ألمحوا بهشاشة نسبه، فهو بعد التقصي، تنبئه جدته أنه "مخسور"، فلم يجد بداً من الترحال إلى السنغال، ومنها إلى الدوحة، حيث يصبح كتبياً غارقاً في عوالم الكتب التي طالما أحبها.

"المخسور" عبارةٌ لا يعرفها المشرقيون، فهو من وُلد بعد غياب والده بسنوات، قد تمتد الى أربع أو خمس سنوات، ولهم به تعليل فقهي، لا يمت للغة العلم بأية صلة، لكنها آلية حمايةٍ اجتماعية، تحمي الفتاة التي تلد بعد غياب زوجها بسنوات.

هو يرثي لحال المكتبات اليوم وأفول نجمها، سواء بعزوف الشباب عن القراءة أو بتحول القارئين إلى الكتب الإلكترونية، المقرصنة في معظم الحالات (فالكتبي في العالم العربي، يحتاج إلى فتنة عائشة بنت طلحة، وبلاغة ابن المقفع، وطرافة الجاحظ، مع حلم الأحنف طبعاً، ليسلم له رأس ماله).

وهو لا يفتأ ينثر لآلئ الحكمة على لسان أبطاله (إن النسب يذبُل حيث تنبت المدارس والجامعات، وإن ماءَ الأحساب يغيضُ حيث تُزهر غاباتُ الإسمنت).

وأنت تبحر في عوالم الشناقطة، المليئة بالحياة والأدب والشعر، بعيداً عن سطوة الآلة وعبث التكنولوجيا بحياة الإنسان.

الشيباني رواية مصاغة بلغة فصيحة عالية، تحملك بلاغتها وعباراتها المنتقاة بعناية بالغةٍ، في موجٍ يعلو بك تارةً، فتبصر قفاراً وفيافي وواحات تضج بالحياة والعشق، ويهبط بك تارةً أخرى، فتلج مغاور لنفيس الدرر وكريم الحجارة التي تستغلق مفاتيحها إلّا على متبصرٍ صبورٍ، أو من به شغف، وتارةً يحكي لك بلسان شنقيطيٍ صميم، فلا تصل إلى ما أراده إلَّا بفهم السياق وإعمال المقاربة والقياس.

تسكن روح المعري جنبات الرواية، فهي تتقدم كل فصل من فصولها ببيت من شعره يجمل روح ذلك الفصل أو مقولته، كما أنَّ حياة الشيباني كحياة رهين المحبسين، مرتهنة بين رسالتين تدمِّر أولاهما حبه، وتدمِّر الأخرى ما بقي من حياته، التي ما تنفك تنوس بين الحب والترحال.

هاتان الرسالتان كأنهما المطرقة والسندان، تنبئه الأولى وقد كتبتها حبيبته المتخيلة "سلمى" ابنة أحد الجنرالات بلغةٍ متعالية، عن استحالة الوصل بينهما فهي من عليّة القوم، وأعلاهم نسباً، وهو مجهول النسب والقبيلة، وهذا في أعراف الشناقطة أمر يحسب له حساب، وعرف يكتسي لبوس القانون الذي لا يحاد عنه.

الرسالة الثانية تأتي بعد أعوام موحيةً أن مرسلتها حبيبته سلمى، تدعوه للعودة إلى موريتانيا لتكتمل هناك قصة حبهما التي تسكن فؤاده وخياله، لكن ما إن تطأ قدماه أرض مطار نواكشوط، حتى تتلقفه أيدي العملاء السريين، ليجد نفسه ضحية خدعةٍ سياسيةٍ، ليس لها من ختام إلا حبل المشنقة.

تنبيك صفحات الشيباني، عن كاتبٍ خبر الحياة وعارك الأفكار، وعجمته سنون الحِلِّ والترحال، وكأنه شيخٌ جاوز السبعين مع عمره، مع لغةٍ مسبوكةٍ بعنايةٍ فائقةٍ دون تكلفٍ مصطنع، فهو يسيلها على صفحات روايته كما تسيل كلماته وهو يحدث نفسه.

وكما تفعل بك الروايات الرائعة فأنت لن تغادر صفحاتها الأخيرة دون أن تعتريك حسرة الفوت، وأنت تلهث جرياً في مسارب تلك الحكايات، في هذا العالم الكثيف الذي تنبض عروقه بدمٍ حارٍ، كحرارة الحياة التي نعيشها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رواية الشيباني. تقع في 260 صفحة

للكاتب الموريتاني. أحمد فال ولد الدين

صدرت عن دار التنوير 2019

كلمات مفتاحية