icon
التغطية الحية

الشمال السوري رهينة لتقلبات الليرة التركية.. ما سبل تقليل الخسائر؟

2023.06.04 | 06:24 دمشق

مكتب صرافة في مدينة إدلب شمال غربي سوريا - AP
مكتب صرافة في مدينة إدلب شمال غربي سوريا - AP
+A
حجم الخط
-A

يلقي انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار بظلاله بشكل مباشر على الواقع المعيشي والأسواق وحركة العمل في مناطق سيطرة المعارضة السورية، شمال غربي سوريا، بالتزامن مع غياب الرؤية الاقتصادية لدى الحكومات والمجالس المحلية لتقليل الخسائر والحد من الآثار السلبية لتقلبات العملة التركية على واقع المنطقة.

وتجاوز سعر صرف الليرة التركية الـ20 مقابل الدولار الواحد خلال الأيام الماضية، وكان لهذه التقلبات آثار مباشرة على أسواق الشمال السوري، إذ لجأ السكان فيها للتعامل بالليرة التركية، في شهر حزيران 2020، بدلاً من نظيرتها السورية التي شهدت انهياراً كبيراً أمام الدولار الأميركي، وحينذاك كان سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار 6.8، لكنه تخطى مؤخراً حاجز الـ20 ليرة، وهو ما أعاد المشكلات ذاتها للمشهد، المتمثلة بارتفاع الأسعار وتلاعب التجار وانخفاض قيمة الرواتب.

يناقش موقع "تلفزيون سوريا" ضمن هذا التقرير واقع الأسواق في الشمال السوري ومعاناة العمّال فيه بسبب تراجع قيمة الليرة التركية، ويعرض جزءاً من العوامل التي أسهمت في تعميق الأزمة المالية، والحلول المحتملة لتقليل الخسائر قدر الإمكان.

تذبذب الليرة التركية يرهق السكان

تكمن المشكلة الكبرى التي يعاني منها سكان شمال غربي سوريا على المستوى الاقتصادي، في أن معظمهم يتقاضون أجورهم بالعملة التركية، بمن فيهم الموظفون في المجالس المحلية والمعلمون والأطباء في بعض المستشفيات، وأفراد الجيش الوطني السوري والشرطة، في حين يتم تسعير المواد والسلع في الأسواق بالدولار الأميركي، ما يعني أن الأسعار ترتفع كلما انخفضت قيمة الليرة، بينما تبقى الرواتب ثابتة، وهو ما يزيد الفجوة بين المبلغ الصادر والوارد بالنسبة للمواطنين.

ينطبق هذا الأمر على شريحة من المجتمع، يعد حالهم أفضل بأضعاف من العاطلين عن العمل، أو الذين يكافحون بشدة للحصول على قوت يومهم الذي قد لا يتجاوز 3 دولارات، فهناك قسم من السكان يشكّلون نسبة لا بأس بها في المجتمع، يعملون "باليومية"، وينتشرون في المواقع الرئيسية ضمن المدن للحصول على فرصة لتحصيل قوت يومهم.

لا يضمن هؤلاء العمال الحصول على المردود المالي المناسب لأسرهم، فمنهم من يحصل على فرصة في اليوم كـ(نقل مواد بناء - تفريغ حمولات السيارات التجارية - نقل أثاث المنازل)، ومنهم من لا يحالفه الحظ بالحصول على هذه الفرصة بالرغم من تواضع مردودها المالي.

انخفاض قيمة الليرة التركية ألقى بمزيد من المسؤولية على العمال الذين بالكاد يمكنهم تأمين وجبة طعام رئيسية لأطفالهم، كونهم يتلقون أجورهم بالليرة التركية، وعند شرائهم الحاجيات الأساسية يضطرون للدفع بالدولار أو ما يعادله بالعملة التركية بحسب سعر الصرف في أثناء الشراء.

الشاب الملقب بـ"أبو عبدو الشامي"، وهو أحد العمال في مدينة اعزاز شمالي حلب، قال لموقع "تلفزيون سوريا" إنه يتجمع برفقة العشرات من العمال في محيط دوار "الكفين" وسط اعزاز منذ الصباح وحتى المساء، أملاً بالحصول على قوت يومه، لقاء العمل الحر سواء عبر تخصيص الدراجات النارية للنقل، أو تفريغ حمولات السيارات وما شابه.

وأضاف "الشامي" أن المردود المالي اليومي للعامل غير ثابت، فقد يحصل الشخص على 50 ليرة يومياً، وقد يحصل على 150، وفي بعض الأحيان يعود العامل إلى منزله خالي الوفاض لعدم توفر فرصة له طوال اليوم.

وأشار إلى أن أسعار البضائع والسلع ارتفعت في الأسواق، في حين بقي مردود العامل ذاته، مضيفاً أن يومية العامل بشكل وسطي تقدّر بـ 75 ليرة تركية (ما يعادل 3.5 دولارات)، وهو ما لا يكفي سوى لشراء الخبز وكمية قليلة من الخضراوات.

الحدود الاقتصادية للسكان

وأفاد "الشامي" بأنه لا توجد جهة حكومية مسؤولة عن أحوال العمال والأجور المدفوعة لهم، مطالباً المؤسسات والمجالس بتأمين فرص عمل للشباب واستصدار قرارات حول قيمة الحد الأدنى للأجور على غرار تركيا، بحيث لا يقل عن 3500 ليرة تركية شهرياً.

فريق منسقو استجابة سوريا، أشار في وقت سابق إلى أن حد الفقر المعترف به، ارتفع في شمالي سوريا إلى قيمة 5,018 ليرة تركية، في حين ارتفع حد الفقر المدقع، إلى قيمة 3,790 ليرة تركية.
كذلك وصل حد الفقر إلى مستويات جديدة، حيث تمثّل العائلات الواقعة تحت حد الفقر في الشمال السوري نحو 89.24 في المئة من عدد السكان، في حين بلغت نسبة العائلات التي وصلت إلى حد الجوع 39.64 بالمئة.

وفقدت أكثر من 11 ألفاً و 372 عائلة مصادر دخلها نتيجة الزلزال الأخير الذي تعرضت له المنطقة، ووصلت نسبة البطالة العامة إلى 87.3 في المئة بشكل وسطي (مع اعتبار أن عمال المياومة ضمن الفئات المذكورة).

ولفت منسقو استجابة سوريا إلى عجز واضح في القدرة الشرائية لدى المدنيين، إذ فشلوا في مسايرة التغيرات الدائمة في الأسعار والتي تتجاوز قدرة تحمل المدنيين لتأمين الاحتياجات اليومية.

الحد الأدنى للأجور وحاجة الأسرة شهرياً

نقل موقع "تلفزيون سوريا" مطالب العمال ومقترحاتهم لوزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة، الدكتور عبد الحكيم المصري، الذي قال إن الحكومة تصدر دراسة شهرية تقدّر فيها حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أشخاص للمواد الأساسية، ويعتبر المبلغ الناتج بمنزلة حد أدنى للأجور، إلا أنه لا يجري الالتزام به في الشمال السوري بسبب نسبة البطالة المرتفعة وحاجة السكان للعمل لتحصيل قوت يومهم حتى لو كانت الأجور متواضعة.

وأشار المصري إلى الحاجة لوجود قوة تلزم أصحاب العمل بالحد الأدنى للأجور، والأهم من ذلك، تأمين العمل للسكان أولاً، عبر افتتاح منشآت ومعامل داخل المدن الصناعية وجذب المستثمرين.

وبلغ الحد الأدنى لحاجة الأسرة المكونة من خمسة أشخاص خلال شهر نيسان الماضي 3693 ليرة تركية (ما يعادل 180 دولاراً خلال تلك الفترة)، بينما بلغت قيمة السلة السلعية الشهرية للأسرة بالليرة التركية 5453 (ما يعادل 267 دولاراً خلال تلك الفترة)، وبذلك تعيش الأسرة بظروف مناسبة تكون قادرة من خلالها على تأمين الحاجيات الأساسية، وفق دراسة من إعداد وزارة الاقتصاد في الحكومة المؤقتة، اطلع عليها موقع "تلفزيون سوريا".

وذكر وزير الاقتصاد أن حاجة الأسرة شهرياً لتعيش بشكل مقبول تبلغ نحو 260 دولاراً، أما الحد الأدنى البالغ 180 دولاراً فيشمل فقط الأمور الأساسية، مثل المواد الغذائية والمنظفات.

الدراسة حول متوسط نفقات الأسرة شملت المواد الغذائية (خبز - لحوم - فاكهة - خضراوات - سمنة - زيت - رز.. وغيرها)، إضافة إلى الغاز المنزلي ومصروف الأطفال والماء والكهرباء واللباس والإنترنت والمنظفات والمواصلات.

1

لماذا تفاقمت المشكلات الاقتصادية شمالي سوريا؟

بلا شك يلعب تذبذب قيمة الليرة التركية دوراً كبيراً في المشكلات الاقتصادية شمالي سوريا، مع وجود عوامل أخرى فاقمت هذه الأزمة، خاصة أن الشمال من أكثر المناطق كثافة سكانية، وجُلّ سكانه يعيشون دون خط الفقر، وفضلاً عن ذلك فالمنطقة دُمرت فيها البنية التحتية خلال السنوات الماضية، وتعاظمت فيها الاحتياجات، كما أنها منطقة مغلقة لا تملك موارد ذاتية كافية وتعتمد بشكل كبير على الاستيراد.

وقالت الباحثة ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري، كندة حواصلي، في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا"، إن اعتماد السلطات المحلية شمالي سوريا على الليرة التركية جاء بعد انهيار الليرة السورية، كخطوة اضطرارية ولعدم وجود بدائل، علماً أن بعض الخبراء اعتبروا الخطوة متسرعة وغير مدروسة، ولم تكن بناءً على دراسات وأبحاث، فالانتقال للتداول بالليرة التركية لم يحمل معه تصوراً واضحاً حول آليات الاستيراد والتصدير، أو وجود مرجعية لإدارة النقد كالبنك المركزي، كما جاءت هذه الخطوة دون أن تترافق بعملية تصحيح لأجور العاملين بما يتناسب مع قيمة العملة الجديدة، بل على العكس ظلت الرواتب والأجور ضعيفة مقابل تضخم سعر البضائع والمنتجات التي أصبحت تُسعر وفق الدولار من دون وجود رقابة حكومية عليها.

ويشير تقرير سابق لمركز الحوار السوري اعتمد على جلسة نقاش مركّزة لخبراء اقتصاديين سوريين إلى أن الارتباط مع الليرة التركية في ظل غياب التصورات اللازمة جعل مناطق الشمال السوري – وهي الحلقة الأضعف – رهينة لواقع تذبذب الليرة التركية، والذي تنعكس آثاره بشكل سيئ جداً خاصة مع عدم وجود حكومة نافذة تملك الإمكانات والقدرة على اتخاذ القرارات التي من شأنها تخفيف آثار المشكلات الاقتصادية.

ومن ضمن الأمور التي عززت الأزمة -وفقاً لما ورد في التقرير- غياب الرؤية الاقتصادية، وغياب المنظومة المالية، وتعدد السلطات وتداخلها، وهذه من المشكلات الكبيرة التي تعيق أي نمو أو تخطيط اقتصادي، فبناء اقتصاد قوي يقتضي أن تتوفر سلطة موحدة تفرض نفوذها على كامل المناطق ذات الصلة، وتقول "حواصلي": على سبيل المثال، تكتسب المجالس المحلية في مناطق الإشراف التركي قوتها من الشريك التركي، وذلك بخلاف الحكومة المؤقتة ذات النفوذ الضعيف على الأرض رغم غطائها السياسي، في حين تنفرد حكومة الإنقاذ بسياسات من دون تنسيق مع غيرها وفق سياسة الأمر الواقع، لقد خلق هذا الوضع مشكلات عدة، وجعل عملية توحيد السياسات ورسم الخطط ووضع الاستراتيجيات وضبط التجار وتطوير الاقتصاد ومواجهة الأزمات أمراً بالغ الصعوبة، كما جعل من إمكانية حل المشكلات السابقة أو اللاحقة أمراً متعسراً".

ما سبل تقليل الخسائر؟

ذكرت "حواصلي" أن العديد من الخبراء الذين استُطلعت آراؤهم يعتقدون أنه من الصعب تقديم حلول تستطيع تحقيق تغيير سريع على المستوى المنظور، فالمشكلات الاقتصادية الحالية شمالي سوريا تتعلق بجملة من الأسباب الداخلية والخارجية السياسية والاقتصادية، نملك – نحن السوريين – التفاعل مع بعضها، في حين يقع بعضها الآخر خارج حدود قدرتنا على التأثير، إلا أن ذلك لا يعني أن نستسلم للواقع ونقرّ بالعجز، فما زالت ثمّة هوامش يمكن التحرك بها ومن شأنها تحسين الواقع والتخفيف من آثاره السلبية.

ونقلت الباحثة مجموعة من الحلول الإسعافية، وأخرى بعيدة المدى تم التوصل إليها وتطويرها مع مختصين في الشأن الاقتصادي، من شأنها تخفيف الآثار الاقتصادية على المنطقة الناجمة عن انخفاض قيمة الليرة التركية، وهي:

  • توجه المنظمات إلى الداعمين العرب ومجموعات السوريين المغتربين بمشاريع تسعى إلى إنقاذ الناس من دائرة الجوع المدقع، وذلك من خلال إنشاء مطابخ خيرية متنقلة، وتأمين استمرارية دعم الخبز الذي يُعد السلعة الأساسية التي يعتمد عليها سكان هذه المنطقة.
  • إنشاء هيئات رقابية جوالة تقوم بضبط الأسواق ومراقبة الأسعار ومنع الاحتكار تحت طائلة المحاسبة القانونية من جهة، وتمارس دوراً رقابياً على عمل المنظمات أيضاً من جهة أخرى.
  • إنشاء مؤسسات استهلاكية تبيع المواد الأساسية بأسعار مدعومة وهامش ربح بسيط؛ فهذا يقدم حلّاً بديلاً للمواطنين ويساعدهم على شراء احتياجاتهم بأسعار مدعومة تحميهم من سطوة التجار، وتخلق حالة من المنافسة الشريفة التي تُجبر التجار على تسعير منتجاتهم بشكل منطقي.
  • إنشاء رؤية استراتيجية بشراكة من الفاعلين المؤثرين في الاقتصاد، كالأكاديميين والباحثين والسياسيين والموظفين الإداريين والمنظمات الفاعلة، بما يمكّن من تحريك عجلة الاقتصاد وتخفيض نسب البطالة وإيجاد حلول للمشكلات الآنيّة.
  • إنشاء وحدة دراسات ورصد اقتصادية تتبع لجهة تخطيط تقوم بإجراء البحوث المطلوبة حول العديد من المواضيع الاقتصادية، مثل الحد الأدنى للأجور وكيفية ضبط العمل ومواجهة الأزمات الطارئة، وتقديم الإحصائيات اللازمة التي من شأنها توضيح الواقع بدقة وشفافية، والمساعدة على اقتراح حلول ومشاريع بناءً على معطيات دقيقة.
  • التفكير بآليات تسعى إلى خلق بيئة داعمة تشجّع على الاستثمار في القطاعات الحيوية في المنطقة، ، كتشجيع الاستثمار في الزراعة وفي الثروة الحيوانية على سبيل المثال، وحمايتها من التراجع، وتقديم التسهيلات الإدارية وتخفيض الضرائب والرسوم، وتوحيد سياسات المعابر والرسوم التي تتقاضاها على البضائع.