الشعوب كساحة تجربة!

2020.04.15 | 00:02 دمشق

b58ada5ce0d63a59bccb394baad4b0e1_xl.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرة أخرى يعبر الرئيس الروسي وبكل وقاحة عن رضاه حول نتائج اختبارات السلاح الروسي في سوريا، حيث أكد فلاديمير بوتين نهاية هذا الأسبوع أن أنواعاً مختلفة من أسلحة بلاده الجديدة أثبتت نجاحاً كبيراً بعد استخدامها في الحرب السورية.

لا يأتي سيد الكرملين بسابقة، وهو ليس أول رئيس دولة منتجة للأسلحة يعتبر الحروب فرصة للتجريب، لكن سابقته الفريدة هي وقاحته وجرأته على الحديث بهذه المباشرة الفجة ودون مواربة.

في زمن غير هذا الزمن، كان يمكن لمثل تصريحات بوتين الأخيرة حول نتائج تجارب السلاح الروسي على أجساد السوريين أن تستدعي استنكاراً وإدانات على الأقل، لكن بوتين لا يجد اليوم من يقول له شيئاً، ولمَ لا يفعل وهو الذي لم يجد من يمنعه عن تنفيذ تجاربه الوحشية قبل ذلك؟!

يثبت بوتين مرة بعد أخرى أنه لو لم تتح له الأيام فرصة الوصول إلى منصب رئيس دولة، لكان حتماً رئيس عصابة مافيا، أو إن عانده الحظ ولم يتمكن من الحصول على هذه الفرصة، لما خاب أمله في أن يكون قائد تنظيم مسلح.. ولا يهم أي ايديولوجيا كان سيتبناها هذا التنظيم طالما أنه في النهاية تنظيم يرى في الشعوب ساحات تجارب لا أكثر.

 

كان بوتين ليكون في غاية السعادة، وربما بأضعاف سعادته الحالية لو أتيح له ذلك، طالما أن جميع التنظيمات (الثورية) تنشد تغيير العالم انطلاقاً من ايديولوجيا مقررة وإيماناً بفكرة محددة دون أي اهتمام بالثمن.

فالتنظيمات الماركسية الثورية وهي تناضل من أجل تحقيق فكرتها، وتتنقل من بلد لآخر على مدار قرن من الزمن تقريباً، ارتكبت جرائم فظيعة بحق الشعوب والمجتمعات.. قليلها نجح في الوصول للسلطة، كما حدث في الاتحاد السوفياتي والصين وفيتنام وكوريا الشمالية، وأكثرها فشل فشلاً ذريعاً ولم تكن تجاربها بأقل سوءاً وفدحاً من تجارب أسلافها من الجماعات الشيوعية الأولى، التي حاول أصحابها تطبيق النظام المشاعي المثالي فكانت النتائج وخيمة بتفوق.. ربما وحدها التجربة الكوبية لم تكن بهذا السوء.

ففي القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، ولما لم يكن كارل ماركس قد أنجز نظريته الاشتراكية بعد، كان آخرون قد تخيلوا العالم أفضل وفق نظام مشاعي يتساوى فيه الجميع وتلتغي فيه كل الفروقات، فعملوا على تطبيق رؤيتهم في مساحات ضيقة في أوروبا والقارة الأميركية، لكن ما حصل أن الآلاف ممن طبقت عليهم هذه التجارب قضوا موتاً نتيجة الأمراض والجوع، بينما قضى الملايين بعد ذلك في القرن العشرين عندما امتلكت جماعات الشيوعية السلاح أو السلطة.

قتل الآلاف أيضاً على يد الجماعات الثورية اليسارية، أو بسببها، في مناطق متفرقة من آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث تبنت تلك الجماعات العنف المتفلت، واستخدمت الهجمات الانتحارية والتفجيرات العشوائية، كما حصل في إيرلندا الشمالية وإقليم الباسك وسريلانكا وغيرها.. وفي كل مرة كان منظرو هذه الفكرة يعتبرون ما حصل (تجارب) بل وما زال يوجد إلى اليوم من اليساريين المتطرفين من يعتبر هذه التجارب جزءاً من سيرورة التاريخ وصراعه الجدلي الذي لا يمكن إلا أن يكون مفيداً !

الأمر ذاته ينطبق على الجماعات الجهادية التي تطلق اسم (التجربة) على كل محاولة لها، فبالنسبة لها فإن أفغانستان تجربة، والجزائر تجربة، والصومال تجربة، والعراق تجربة، وأخيراً فإن سوريا بالنسبة لهذه التنظيمات هي (التجربة الشامية)!

هكذا وبكل بساطة يصبح الألم والموت والقتل والدم المتدفق مجرد تجربة، وتبسط الكوارث والمآسي على هذا الشكل دون أي اعتبار لمعاناة الشعوب والأثمان الباهظة التي تدفعها نتيجة الحروب والتفجيرات والقتل العشوائي، والأفظع أنه نادراً ما يتم القبول بنقد هذه (التجارب) واعتبار كل من يفعل ذلك عدواً !

لا يخرج عن هذا التصنيف بطبيعة الحال حزب العمال الكردستاني، الذي خاض قتالاً مزمناً في تركيا على وجه الخصوص، وها هو اليوم يتمكن من إقامة سلطته الحلم على أجزاء من الأرض السورية، ويتباهى قادته ومؤيدوه بأن هذه النتيجة هي خلاصة (تجارب) العقود السابقة..عقود من الدم والموت العشوائي والويلات أيضاً..!

إذاً الشعوب والبشر وأرواح الناس ليست سوى حقول تجارب بالنسبة لكل هؤلاء، الذين اختلفت أفكارهم لكنهم اتفقوا على الوسائل وعلى الاستهتار بحياة الآخرين حتى لو كانوا بالآلاف أو الملايين، وسواء كانوا عصابات أو تنظيمات أو جماعات، أو حتى قادة دول، فجميعهم يعتبرون أن الفكرة أهم من البشر، وأن كل شيء يمكن أن يكون ثمناً مقبولاً من أجل تحقيق الغاية.. أوَ ليس هتلر من تسبب بمقتل الملايين أيضاً وهو رئيس دولة من أجل فكرة أراد أن يجرب تحقيقها؟