icon
التغطية الحية

الشعر بين الرؤيا وشرط الانزياح

2021.10.01 | 07:14 دمشق

الشعر بين الرؤيا وشرط الانزياح
محمد علاء الدين عبد المولى
+A
حجم الخط
-A

سادت أدبياتنا النقدية للشعر ولفترة طويلة تكاد تمتدّ حتَّى الآن، مقولة إنه "لا شعر بلا رؤيا"، في محاولةٍ واضحةٍ لإبراز دور الرؤيا في إعطاء سمة الشعر لقصيدةٍ ما. ولكن هذه المقولة لم تحسم الأمر كما نرى. ونحن هنا لا نناقش مفهوم الرؤيا، فقد كثر الحديث فيه لمن يشاء العودة إلى التّعريفات. لهذا نتجاوز ذلك إلى القول إن كثيراً من الشعر الحديث منذ جيل التأسيس حتّى الآن، وعبر أجيال مختلفة، يتوفَّر على الرؤيا بشكل أو بآخر.

ولا يمكن أن نغفل دور الرؤيا الحاسم. ولكن هذا الكثير من الشعر لا يغفر له انتماؤه إلى الرؤيا أن يكون شعراً. فقد تمّ إنتاج كمّ هائل من الشعر استقال من بقية العناصر الفنية، وتخلّى عن الوعي الجمالي لمفهوم الشّعر، وباتت كتابة القصيدة عنده نوعاً من الاعتياد وتكرار الأساليب والتَّقنيات بحجّة أن هذه القصيدة تعمل من داخل الرؤيا أو تحمل رؤيا معيَّنة. لقد قرأنا شعراً كثيراً لبعض شعراء جيل السِّتينات في سوريا وغيرها مشحوناً بالرؤيا، خالياً من الشّعر، بعيداً عن امتلاك العناصر الحقيقيّة للَّحظة الشعرية، مكتفياً بالتَّركيز على ما يمكن توصيفه بالحديث إلى المستقبل وابتكار زمن آخر وعالمٍ أفضل، أو تقديم صيغةٍ لفظيّةٍ للعالم باعتباره موضوع الرؤيا والاستبصار. فكان ذلك الشعر كمن يتخلّى عن أكثر من النّصف من أعضائه مع أنه يدّعي أنه يمشي بعافيةٍ وثقةٍ. أمّا اكتشاف أنه مشلول وعاجز فتلك مهمّة نقديّة لم تتبلور حتَّى الآن، ربما، دون ثرثرة واستطراد، لأنّنا ما اعتدنا بعد على مجابهة تجربتنا الشعرية في حداثتها الأولى مجابهةً حقيقيّة لعدم توافر مناخ نقديّ جريء مستقلّ.

يقول صلاح عبد الصبور في مفتتح ديوانه (أحلام الفارس القديم):

"معذرةً يا صحبتي، لم تثمر الأشجار هذا العامْ

فجئتكم بأردأ الطّعامْ

ولستُ باخلاً، وإنما فقيرةٌ خزائني

مقفرة حقول حنطتي

معذرة يا صحبتي، فالضّوء، خافتٌ شحيحْ

والشمعة الوحيدة التي وجدتُها بجيب معطفي

أشعلتُها لكم

لكنها قديمة معروفة لهيبها دموع

معذرة يا صحبتي، قلبي حزينْ

من أين آتي بالكلام الفرِحْ"(1)

ويمكن أن نسوق عشرات الأمثلة من هذا المستوى السّطحّي الباهت السَّاذج الَّذي لا يحمل من الشعر غير وزنٍ ركيك هو الآخر. وهو مستوى لم يكن صدفة عند عبد الصبور وسواه من جيل الروّاد. بل هو سمةٌ من سمات تجربتهم في معظمهم مع استثناءات تكاد تكون معروفة في سوريا وخارجها. هذا المثال لشاعر يتحدث عن الحزن والفقر والوقت والفارس ويرثي الرجل ويحبّ حبيبتَهُ، ولكنه حديثٌ وكفى بعيد بعداً هائلاً عن لحظة الإبداع التي تقتضي حشد مهارات المخيّلة واللغة والإيقاع لصياغة موقفٍ فنيّ عالٍ من هذا العالم الذي لا تثمر أشجاره ولا تمتلئ خزائنه ولا تشتعل شموعه..

إن ما كان ينقص هذا الكلام هو المسألة التي مدعو للتركيز عليها في كتابة أي نصّ شعري، وهي "الانزياح". وقد أصبح هذا المصطلح شائعاً في كتاباتنا النقدية بعد أن تراكمت الترجمات عن نقاد الغرب منذ البنيوية إلى ما بعد الحداثة. والانزياح هو المعيار الحقيقيّ، إضافة لعنصر الإيقاع سواء أكان بالوزنِ الشكلي أم بالوزن الداخلي أو ما يعرف بالموسيقا الداخلية، ذلك هو ما يكشف مدى جدارة انتماء القصيدة إلى هوية الشعر الحقيقي. وتفترض طبيعة التجربة الشعرية أن تكون انزياحاً بكلّيتها تقريباً حتّى ولو لم يُكتَشَفْ عنصر الانزياح إلاَّ حديثاً. فشعر أبي تمّام على سبيل المثال مترعٌ بالانزياحات مع أن عصر أبي تمّام لم يكن قد اكتشف منجزات النقد الحديث. ولكن أجدادنا النقّاد كانوا بإحساسهم الفنيّ يتلَّمسون طبيعة التجربة ويدورون حول معنى الانزياح وهم يتحدّثون عن المجاز ومعنى المعنى. فمثلاً يقول الجرجاني في (أسرار البلاغة):

"المجاز مَنْ جاز الشيء يجوزه إذا تعدّاه. وإذا عدل باللَّفظ عمَّا يوجبه أصل اللغة وُصفَ بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصليَّ أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولاً"

إن الانزياح يفيد بأن هناك أصلاً ما، ومن واجب الشاعر أن ينزاح عن هذا الأصل بحيث تدخل اللغة في صلةٍ يخلقُها الشاعر، وهي غير معروفة

لذلك كان الشاعر العربيّ يجاهد من أجل أن يزيح اللّفظ عن موضعه الأصليّ، وينحرف بالمعنى عمّا تواضع عليه العامَّةُ والذاكرة. وذلك عبر استخدام تقنيات الاستعارة والمجاز، على سبيل المثال، إضافة للمخيّلة الشعرية. وإلاَّ تحوّلت القصيدة إلى أوزانٍ وقوافٍ، كما هو الحال مع قصيدة عبد الصبور الركيكة السَّابقة.

إن الانزياح يفيد بأن هناك أصلاً ما، ومن واجب الشاعر أن ينزاح عن هذا الأصل بحيث تدخل اللغة في صلةٍ يخلقُها الشاعر، وهي غير معروفة، وفي الحقيقة لم يكن الشعر على مرِّ العصور في أبهى تجلّياته إلاّ هكذا، وسقط، وسوف يسقط كلّ شعرٍ لا يتمتع بهذه الميزة.

الآن بعد نضوج تجربة شعرنا العربيّ، بشكلٍ من أشكال النّضوج لسنا في صدد إثباته هنا، بات مطلوباً من أجيال الشعر الجديد أن تتخلّص ممّا وقع فيه كثيرٌ من جيل الآباء "الرّائد" من مطبّاتٍ فنيّةٍ لا تغتفر. ولحسن الحظّ، فقد بدأت فعلاً هذه الأجيال تعي طبيعة التجربة كلٌّ على حسب إمكانياته، ولكن لم أجد شاعراً جديداً حقيقيّاً مهما كانت إمكانياتُه متواضعةً بعد، يقبل على قلمه أن يكتب قصيدة بمستوى قصيدة عبد الصّبور..

يقول بسّام مهدي صالح في مطلع ديوانه (التْفاتهُ القمر الأسمر):

"قال لي صاحبي: - إنّ رمل الجزيرة أجدادنا

وحجارتها من جماجمهم

قلتُ أعرفُ هذا... لا تُعِد حكمةً للمعّري

سوف أثقلُ وطئي عليهم

- ستوقظهم

قلت: أقصدُ هذا"(2)

يتجلّى الانزياح هنا عبر أكثر من مستوى. فرملُ الجزيرة لم يُوضَعْ ليكون في الواقع الماديّ واللغوي أجدادنا، لكنه صار في القصيدة هو أجدادنا. وكذلك الحجارة لا تعني في أساسها جماجم. والمستوى الآخر وهو الأهمّ، انزياح دلاليّ يخصّ استحضار موقف للمعّري مستمدّ من بيته المعروف (خفّف الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد). فالبيت يفيد بعدم الإثقال على أديم الأرض رحمةً به لأنه متشكل من الأجساد، فلننظر كيف قلب الشاعر بسام هذا المعنى عندما طرح عكس الدلالة المتضمّنة فيه، فهو يريد أن يُثقلَ الوطء على الرمل والحجارة من أجل إيقاظ هؤلاء الأجداد الذين تشكلّوا من عناصر الأرض.

ما فعله بسّام في قَلْب هذه الدلالة، هو ما يُطلَبُ من الشاعر الحديث أن يفعله وهو في صدد الحوار مع التراث برموزه وإشاراته وشعره وأساطيره، بحيث لا يمكن أن يتقبَّلَ فضاء القصيدة الحديثة أن يدخل عليه التّراثُ جاهزاً بحرفيّته ووثوقيّته. لابدّ من إعادة تركيبه شعريّاً، وصولاً إلى ممارسة عملية الانزياح عليه. وإلاّ فسيظلّ التّراثُ عبارةً عن معلوماتٍ يستعيدها الشاعر للتذكير بها. وليس من مهمّة الشعر أن يذكّرنا بما هو معلومٌ، بل مهمته أخذ المعلوم إلى المجهول، وممارسة إعادة الخلق، وهذا ما يوفّره الانزياح بجدارة.

     يقول الشاعر فرج بيرقدار في ديوانه (تقاسيم آسيويّة) :

"قال: أتدري

ما أجمل حرفٍ في الدنيا؟

أمهلني بضعةَ أقمارٍ

شرّدها الصَّمتُ بعيداً

وأضاف:

تاء التّأنيث

تاء التّأنيث متوّجةً بثلاث نقاطٍ

لا يدرك معناها الأقصى حتّى النّورْ

قلت:

كأني لا أعرف تاء بثلاث نقاط

أو أنّي...

قاطعني وهو يسبّح عينيه

فطينٌ يا ولدي

ضع روحي ثالثةً

وتعلّمْ"(3)

تجتمعُ هنا تقنيّة القصّ العفويّ مع تقنيّة الانزياح في اللَّحظة العفوية نفسها ليتوّج الشاعر ذلك في جعل تاء التأنيث بثلاث نقاط، فالنقطة الثالثة هي الروح الموضوعية فوق تاء التأنيث.. إن في الأمر عدداً مركّباً من الانزياحات، هذا إضافة إلى (أمهلني بضعة أقمار) بدلاً من بضع ليال التي لو قالها لهبط مستوى اللغة شعريّاً هبوطاً مريعاً. وإضافةً إلى النور الذي من المفترض أن يكون عارفاً، لكنه حتى هو لا يعرف معنى التاء المؤنثة المتوّجة بثلاث نقاط. ولن يدرك معنى ذلك غير الشعر.

 

المصادر:

  1.  صلاح عبد الصبور - الأعمال الكاملة  - دار العودة - ج1 بيروت 1972 -  ص 189
  2.  بسّام مهدي صالح - التْفاتةُ القمر الأسمر – اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 2001 - ص5 .
  3. فرج بيرقدار - تقاسيم آسيويّة – دار حوران – دمشق – 2001 - ص16 .