الشعبوية الثورية

2021.01.05 | 00:01 دمشق

sy.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعود بي الذكريات إلى بداية انطلاقة الاحتجاجات السلمية في شوارع المدن والقرى السورية، لأتوقف عند حزمة "اتهامات" صدرت عن مثقف معارض لأترابه من المثقفين ممن لم يتخّذوا موقفاً مسانداً لهذه الاحتجاجات بشكل علني وعلى رؤوس الأشهاد. وقد اعتبر حينها هذا المثقف المقيم خارج حدود المأساة السورية، بأن لا سبب يمكن له أن يُبرّر ما وصفه بـ "الصمت الشريك" الذي يُدين صاحبه ويحكم عليه باللفظ من لائحة المواطن الصالح ويخلع عنه لقب المثقف العضوي إن كان قد سبق له أن أُلبس به.

للوهلة الأولى، ومن منطلق أخلاقي بحت، لا يوجد غبار على ما سبق من كلام على اعتبار بأن مهمة المثقف العضوي أن ينتمي إلى قضايا مجتمعه الملحة وأن يكون حاملاً أساسياً لها كجزءٍ من النخبة التي يُعتمد عليها في كل تغيير أو تبديل حال. وللوهلة الثانية، وبعدما مرّ السوريون بمسارات انتقال الاحتجاجات الشعبية إلى ثورة عارمة ومن ثم إلى مقتلة شاملة، يجدر بنا أن نتوقف نقدياً ـ وبعيداً عن ثقافة الإدانة السهلة ـ عند هذه "الاتهامات" السابقة ومدى مشروعيتها، آخذين بعين الاعتبار خصوصاً المسارات التي اعتمدتها والمآلات التي وصلت إليها. كما يجدر بنا التطلّع إلى صيرورتها كحزمة إدانات صادرة عن أشخاص تبين لاحقاً بأن عدداً لا بأس منهم ثقافتهم الصوتية أشد عمقاً من ثقافتهم البنيوية.

ساعد عنف القمع ووحشية التدمير ومأساة اللجوء، وسواها من الصفات المؤلمة للأحداث وما رافقها، في تعزيز تعلّق عامة الناس برموز تُصرّح وتصرخ بمواقف مليئة بالكلمات والعبارات المباشرة

لقد ساعد تاريخ الحركات الاجتماعية الاحتجاجية لدارسه بأن يتوصل إلى إعمال التمييز الإيجابي في جنباتها بين منتمين فعليين إليها وبين متصيدين آنيين لامتيازاتها إن وجدت وبين متصدّين شرسين لها، وأخيراً، بين مراقبين سلبيين بانتظار معرفة نتائجها لاتخاذ الموقف المناسب. ومن خلال استعراض السنوات العشر السابقة واستعراض أداء بعض الأفراد كما بعض الجماعات، يندفع المراقب إلى خانة التواضع الجمّ في إطلاق الأحكام أو هكذا يبدو بأنه يجب أن يفعل، وهو غالباً، في هذه الحالة السورية بامتياز، لم يفعل إلا لماماً. فمن صنفته الألسن رافعة اسمه إلى قمم الشموخ أو مشهرة باسمه في أوحال الخنوع، كان غالباً مختلفاً في موقفه الحقيقي عما مالت إليه كثير من الألسن، وبمساعدة وسائل التواصل، لوضعه في موقف المتهم المدان وللحكم عليه.

وقد ساعد عنف القمع ووحشية التدمير ومأساة اللجوء، وسواها من الصفات المؤلمة للأحداث وما رافقها، في تعزيز تعلّق عامة الناس برموز تُصرّح وتصرخ بمواقف مليئة بالكلمات والعبارات المباشرة، والتي تُشيد بمن يمكن الإشادة بهم وتندّد بمن يمكن التنديد بهم. وعلى الرغم من صمت هذه الرموز عن استنباط جرأة مماثلة فيما يتعلق بمن سرق الموقف عملياً ورمزياً، في المنابر وعلى أرض الواقع، وبمن حوّل جزءاً من النضال من وطني إلى ظلامي، إلا أن هذه الرموز حازت، ولم تزل تحوز في الكثير من الأحيان، على شعبية لا مجال للتشكيك بمشروعيتها إلا أن تعمّق الباحث فيما لا تحمد عقباه.

ولنصرة قضية عادلة، وبحثاً عن توسيع رقعة الشعبية ذات العوائد الذاتية، وبعيداً نسبياً أو بشكل كامل عن الهدف المشترك، لم تحْذَر هذه الرموز من اللجوء إلى المبالغة في استعراض المعطيات كما المواقف والتي قاربت في كثير من الأحيان حد الكذب وتشويه الحقائق. كما لم تتردد هذه الرموز في إطار انتهاجها لمسارٍ اعتقدت بأنه الأنسب، من أن تُزيح من أمامها، وإن دهساً، من اختلف معها رأياً وأداءً من الأفراد ومن الجماعات.

هذا الأسلوب "الشعبي"، تمكن، وسوريا ليست استثناءً، من الحصول على قاعدة واسعة من المريدين والمؤيدين والمنتصرين. وقد ابتعد كل البعد عن الوقوف أمام الحقائق وتفسير تعقيدات المشهد وممارسة النقد الذاتي وإدانة ما يفرض الضمير والأخلاق إدانته من ممارسات سُجّلت ووثّقت على بعض من ادعى وصلاً بالاحتجاجات أولا ومن ثم بالعمل الثوري وصولاً إلى التنطح للعب دور ما في هياكل التفاوض السياسي.

كثيرون هم من مارس عمله ولم يدّع علماً ومعرفة بعمل سواه أو ابتعد عن الانخراط في الممارسات الإعلامية الجالبة للإعجاب أو الموسعة للقاعدة الشعبية بالمفهوم التقليدي. واعتقد أغلب هؤلاء أن حصر دورهم وأدائهم في مجال عملهم وفي حدود تخصصهم يمكن له أن يرفد المسار العام بالكثير إيجابياً ويمكن له أن يُثري الملفات التي تستند إليها كل عملية تغيير وبناء جدية. إلا أن حسابات أولئك، إن كان في المجال العلمي أو الفكري أو حتى الفني، قد خابت أمام "شعبوية" اللحظة والاحتياجات المتوالدة لصرخات جوفاء أو لمواقف إعلامية أو لجمل مسبقة الصنع صارت تتردد على السن كل من بحث عن مكان تحت شمس هذه الشعبوية.

في كثير من الندوات، يصفق الجمهور بإعجاب ولدقائق متواصلة لمن حاكى عواطفهم وشارك شعاراتهم وكرر مواقفهم

كثيرا ما نسمع، هنا وهناك، خصوصاً عند التطرق إلى اسم بعينه، ردوداً وتعليقات من نوع: هل كان موقفه واضحاً؟ هل صرّح بجلاء وهل ندّد وشجب؟ متناسين غالباً، جهلاً أو عمداً، النتاج الفعلي، بحثياً وفكرياً وفنياً، لمن نحاكمهم بسهولة، وما فيه من حمولة مركّبة وثرية تُغني عن القصائد والشعارات ذات الصدى المؤثر.

في كثير من الندوات، يصفق الجمهور بإعجاب ولدقائق متواصلة لمن حاكى عواطفهم وشارك شعاراتهم وكرر مواقفهم. وفي المقابل، قوبل من سعى لتحليل نقدي للواقع وبعيداً عن نشر الأوهام وبيع الآمال، بتصفيق متردد يحمل استهجاناً مخفياً. إنها الشعبوية الثورية.