
شكّلت جولة الرئيس السوري أحمد الشرع على عدد من المحافظات السورية حدثاً بارزاً تابعه السوريون بكل تفاصيله، حيث راقبوا الحدث منذ بدايته، عندما قال أحد المواطنين للشرع خلال جولته في إدلب: "الله محييك يا شيخ، ما أحلى يلي ما ينسى أهله"، وصولاً إلى احتشاد الأهالي حوله في الساحل السوري.
اختار الرئيس الشرع أن تكون إدلب محطته الأولى في جولته، ففيها استعد آلاف المقاتلين لمعركة إسقاط الأسد، ومنها انطلقت الرصاصة الأولى لرحلة دحره بفترة قياسية لم تتجاوز 12 يوماً، وإليها لجأ الملايين من المهجّرين.
لا شك أن جولة الرئيس الشرع على عدد من المحافظات حملت رسائل سياسية موحّدة، إلا أن كل محطة من محطات الزيارة عكست خصوصية محلية تستدعي قراءة متأنية، حيث تباينت الأولويات والتحديات من منطقة إلى أخرى، وتنوّعت الرسائل والدلالات لكل زيارة.
إدلب.. رد الجميل لمحافظة احتضنت الملايين
لاحظ كثيرون أن زيارة الشرع إلى إدلب لم تكن مجرد محطة بروتوكولية ضمن جولته على المحافظات السورية، بل جاءت في سياق رد الجميل لمحافظة احتضنت ملايين السوريين في ذروة المحنة وحرب نظام الأسد على الشعب السوري.
تحولت إدلب إلى نموذج فريد في التلاحم الاجتماعي والوطني، فمنذ بدايات اشتداد عمليات تهجير السكان من المحافظات الأخرى، استوعبت إدلب ملايين المهجّرين قسراً، وشهدت ولادة مجتمعات جديدة امتزج فيها القادمون بأهل الأرض، لتتشكل صورة مصغّرة لسوريا بكافة أطيافها.
كذلك، كانت إدلب نقطة انطلاق للقوات العسكرية التي استكملت السيطرة على بقية الأراضي السورية، مما منحها بعداً استراتيجياً فريداً. فمن بين جميع المناطق السورية، شكّلت إدلب الركيزة الأساسية لقلب الطاولة على بشار الأسد، بعدما كانت توصف على عهده وعهد أبيه حافظ بالمدينة المنسية، حيث عانت التهميش في سياسات التنمية والخدمات.
في العديد من الدول الحديثة، يُنظر إلى التجمعات السكانية المختلطة، التي تضم أبناء مناطق مختلفة، بوصفها أرضية لبناء هوية وطنية جامعة، تتجاوز الهويات الفرعية لصالح اندماج قومي واسع. وإدلب، رغم سنوات الحرب وما رافقها من تحديات، قدّمت نموذجاً أولياً لما يمكن أن يكون عليه مستقبل سوريا، حيث ذابت الفروقات المناطقية والقبلية والطائفية تحت وطأة المعاناة المشتركة، وحضر الشعور الوطني العام في أبرز اللحظات المفصلية.
ويبدو أن اختيار الرئيس الشرع لإدلب كمحطة أولى يعكس إدراكاً لأهمية الدور الذي لعبته هذه المحافظة، ليس فقط على مستوى احتضان المهجرين، بل أيضاً في الحفاظ على روح المقاومة لدى السوريين والتماسك المجتمعي، وربما تحمل هذه الزيارة دلالة على رغبة السلطة في إعادة تعريف علاقتها بهذه المنطقة، والاعتراف بتضحياتها، وتقديم ما تستحقه من اهتمام.
زيارة مخيمات النازحين في إدلب
حملت زيارة الرئيس أحمد الشرع لمخيمات النازحين في إدلب أبعاداً سياسية واجتماعية تعكس توجهات المرحلة المقبلة، فمنذ سنوات، تحوّلت إدلب إلى أكبر تجمع للنازحين السوريين، حيث ضمّت مئات الآلاف ممن هُجّروا قسراً من مختلف المحافظات، لتعكس بوضوح المعاناة الإنسانية والتغيرات الديموغرافية التي تسبّب بها نظام الأسد وحلفاؤه.
وربما تحمل الزيارة رسالة مفادها أن الدولة لا تتجاهل معاناة النازحين، ومن خلال تواجده المباشر في المخيمات، يحاول الشرع توجيه رسالة تطمين بأن النازحين ضمن الحسابات، إذ وعدهم بأن من أولويات الدولة إعادة المهجّرين إلى مناطقهم وإعادة إعمار منازلهم، طالباً منهم القليل من الصبر.
زيارة الرئيس الشرع إلى حلب
تحمل زيارة الرئيس الشرع إلى حلب رسائل تعكس الأهمية الاستراتيجية والتاريخية لهذه المحافظة، إذ كانت أول محافظة تسيطر عليها الفصائل خلال معركة "ردع العدوان"، وكان هذا الحدث نقطة تحوّل كبرى انتهت بإسقاط الأسد والوصول إلى دمشق.
لا تقتصر أهمية حلب على بعدها السياسي، بل تمتد إلى موقعها الاقتصادي ودورها في تحريك عجلة الإنتاج والتجارة، ورغم الأضرار التي لحقت بالمدينة جراء قصفها من قبل الأسد وروسيا وإيران لسنوات، إلا أنها تبقى المفتاح الأساسي لأي مشروع لنهضة البلاد.
تعكس زيارة الشرع إلى حلب إدراكه لضرورة إعادة إحياء هذه المدينة، التي لا يمكن لسوريا أن تستعيد عافيتها الاقتصادية دون استقرارها وعودة دورها الإنتاجي، بوصفها العاصمة الاقتصادية للبلاد.
لسنوات، عانت حلب من دمار واسع في بنيتها التحتية، إلى جانب تحديات اقتصادية كبرى جعلت الكثير من مصانعها وأسواقها خارج الخدمة، ومن خلال زيارته، ربما يحاول الشرع توجيه رسالة بأن هذه المدينة ليست منسية، وأن هناك توجهاً نحو إعادة الاهتمام بها على المستويات كافة.
كذلك، تعكس الزيارة إدراكاً لضرورة ترسيخ الاستقرار في حلب، باعتبارها بوابة أساسية لأي نهضة اقتصادية في سوريا، فبدون استقرار شامل يعيد الأمان إلى المناطق الصناعية والأسواق التجارية، ستبقى محاولات النهوض الاقتصادي محدودة التأثير.
تمثّل حلب، بواقعها المتغير وتحدياتها، اختباراً لقدرة الدولة على تحقيق التوازن بين الماضي والمستقبل، فإعادة النهوض بهذه المدينة يتطلب ليس فقط إعادة بناء ما دُمّر، بل أيضاً معالجة آثار التحولات الديموغرافية والاقتصادية التي شهدتها، لا سيما بعد تهجير معظم سكانها خلال السنوات الماضية واستيطان عناصر الميليشيات الإيرانية فيها.
زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى عفرين
جاءت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى مدينة عفرين شمالي حلب بعدما عانت من انتهاكات خلال السنوات الماضية، سواء بحق سكانها الكُرد أو من خلال تقاسم الفصائل العسكرية لنواحيها، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية خاضعة لمنطق النفوذ والمحاصصة.
تعرّض سكان عفرين، ولا سيما الأكراد، إلى سلسلة من الانتهاكات بعد سيطرة فصائل من الجيش الوطني السوري عليها، بما في ذلك فرض الضرائب الجائرة على المزارعين، ومصادرة الممتلكات، وسجن المدنيين بذرائع أمنية وسياسية.
ويحمل دخول الرئيس الشرع إلى عفرين رسالة واضحة بأن واقع الأمس قد اختلف، وأن سلطة الدولة باتت المرجعية الوحيدة في المنطقة، بعد أن عانت طويلاً من حالة التفكك والانفلات الأمني، كما تؤكد الزيارة أن المرحلة الحالية تقوم على إنهاء المحاصصة العسكرية، وإعادة فرض النظام المؤسساتي بدلاً من الهيمنة الفصائلية.
ويوجّه الشرع، من خلال زيارته، إشارة واضحة إلى القوى المحلية والدولية بأن الدولة السورية استعادت سيادتها على المنطقة، وأنه لن يُسمح مجدداً بتحويلها إلى ساحة لتصفية الحسابات أو فرض الإتاوات على المدنيين.
ورغم انتهاء مرحلة الفصائل شكلياً، تبقى عفرين اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الدولة على فرض الاستقرار وتحقيق العدالة، خاصةً في ظل الإرث الثقيل من الانتهاكات التي تعرّض لها السكان.
زيارة الرئيس إلى الساحل السوري.. كسر للتصورات الخاطئة
تحمل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى اللاذقية وطرطوس دلالات تتجاوز كونها مجرد محطة ضمن جولته في المحافظات السورية، فهي زيارة تكسر التصورات النمطية التي سعى نظام الأسد المخلوع إلى ترسيخها لعقود، والتي حاول من خلالها تصوير الساحل السوري كمعقل حصري لولائه. إلا أن الوقائع أثبتت زيف هذا الادعاء، فالساحل، الذي عانى من التهميش والاستغلال الممنهج، لم يكن يوماً كتلة صلبة تابعة للنظام، بل كان فضاءً متنوعاً يضم مختلف الشرائح المجتمعية التي تفاعلت مع الأحداث وفق مصالحها وتعقيدات واقعها.
وُصفت زيارة الشرع إلى اللاذقية وطرطوس بأنها "انتحار دبلوماسي"، في ظل وجود مئات من فلول نظام الأسد في المنطقة، وهو ما أثار مخاوف من خروقات أمنية قد تستهدفه، لكن المفاجأة كانت في حجم الالتفاف الشعبي حوله، حيث أظهرت المقاطع المصورة آلاف السكان يرحبون به، في مشهد يعكس مدى التحول الذي شهدته هذه المناطق، ويفنّد تماماً مزاعم الأسد المخلوع بأن الساحل كان حصناً حصرياً لسلطته.
الجموع التي استقبلت الشرع بترحاب قد تكون نفس الفئات التي عانت من سياسات الاستغلال والهيمنة التي فرضها النظام السابق، ورأت في المرحلة الجديدة فرصة لإعادة تعريف موقعها في المشهد الوطني بعيداً عن الاصطفافات القسرية التي فُرضت عليها لعقود.
على المستوى الأمني، عكست الزيارة استقرار الساحل السوري بشكل ينسف أي مزاعم بوجود مناطق خارجة عن السيطرة أو أن "فلول الأسد" لا تزال قادرة على تهديد الاستقرار، إذ لم يُسجل أي اختراق أمني، ولم تظهر أي تحركات غير طبيعية، مما يبعث برسالة قوية إلى الداخل والخارج بأن الدولة ممسكة تماماً بزمام الأمور، وأن المرحلة الجديدة تؤسس لاستقرار حقيقي قائم على أسس صلبة.
أما سياسياً، فإن الزيارة تؤكد أن نظام الأسد انتهى فعلياً وخرج من المعادلة بدون رجعة، فالشرع لم يدخل الساحل كقائد يبحث عن تفاهمات مع بقايا النظام السابق، بل كرئيس يرسخ شرعية جديدة مبنية على دولة تشمل الجميع، لا على منظومة حكم قائمة على الخوف والاستقطاب الطائفي.
هذه الرسالة ليست موجهة فقط إلى الداخل السوري، بل أيضاً إلى القوى الإقليمية والدولية التي قد تكون لا تزال تراهن على إنعاش فلول نظام الأسد المخلوع عبر إعادة تسليحها وترتيب صفوفها، لا سيما بعدما ألمحت إيران لذلك في أكثر من مناسبة.
تفكيك إرث الطائفية والاستغلال في الساحل
خلال السنوات الماضية، لطالما استثمر نظام الأسد، وخاصة في عهد الأسد الأب، في استراتيجية تقسيم المجتمع السوري على أسس طائفية، حيث دفع المكونات المختلفة، وخاصة السوريين السنة، إلى التقوقع لحماية أنفسهم، بينما عمل على إعادة تشكيل الطائفة العلوية عبر تدمير بنيتها التقليدية وإفقارها بشكل ممنهج، مما جعلها تعتمد على النظام في بقائها.
ومن خلال تجنيد العديد من أبنائها في الأجهزة القمعية، نجح النظام في تقديم نفسه كحامي مصالحهم، في الوقت الذي كان يستخدمهم كأداة لإحكام قبضته.
ويُرجّح أن تكون زيارة الشرع إلى الساحل قد جاءت في سياق تفكيك هذا الإرث، وتوجيه رسالة بأن الدولة الجديدة ليست مبنية على الامتيازات الطائفية أو الاستقطاب، بل على مفهوم أوسع من المواطنة المتساوية.
الساحل، الذي عانى من تهميش اقتصادي واستغلال سياسي رغم ادعاءات النظام السابق بأنه معقله، يحتاج اليوم إلى مقاربة مختلفة تعترف بحقوق سكانه كمواطنين متساوين، لا كأدوات بيد السلطة.
من الواضح أن النهج الجديد للدولة لا يقوم على تصفية الحسابات، بل على الاستثمار في المستقبل، وهو ما يعكسه الخطاب الرسمي الذي يركز على العدالة الانتقالية "المقوننة" بدلاً من الانتقام السياسي.
فالتحدي اليوم ليس فقط في التخلص من إرث الأسد، بل في بناء دولة يكون فيها الساحل جزءاً متكاملاً من النسيج الوطني، لا مجرد منطقة يُنظر إليها من منظور الولاءات السابقة.
من هنا، فإن زيارة الشرع تحمل رسالة طمأنة، ليس فقط لسكان الساحل، بل لكل السوريين، بأن المستقبل لا يُبنى على الثأر، بل على المصالحة الوطنية الحقيقية التي تعترف بالمظلومية وتحاسب المجرمين دون أن تعيد إنتاج دوائر الإقصاء.