الشخصية السورية.. تاريخ عظيم وجغرافية متآكلة

2021.12.24 | 05:27 دمشق

syrien8.jpg
+A
حجم الخط
-A

انشغلت التنظيرات السياسية التي تناولت الوضع السوري، في العقد الماضي، بالحديث عن الطائفية والاستبداد والظلم والدولة البوليسية التي بناها حافظ الأسد، إلى غير ذلك من القضايا السياسية التي شهدتها سوريا في القرن المنصرم. وفي خضم هذا الانشغال بالمسائل الملحة التي كان لها أثر في حياة الإنسان، غابت كليا مقاربة الشخصية السياسية السورية، والآفاق التي تتحكم برؤاها وخياراتها، مع أن هذه المقاربة ينبغي أن تكون في رأس أولويات التنظير السياسي، وذلك للوقوف على المسار الذي أدى بنا إلى الحالة الراهنة.

لا يمكن في هذا الصدد تجاهل العوامل والتراكمات الحضارية والثقافية التي طبعت الشخصية السورية، وأكسبتها خصائص معينة، أصبحت فيما بعد بمنزلة الإطار المرجعي أو البنية الذهنية القارة التي تتحكم بالشخصية السياسية السورية.

ولكن هذا التراكم الحضاري المشار إليه، والمتمثل في التنوع الكبير للمجتمع السوري، وكثرة الدول القديمة التي تعاقبت على منطقة بلاد الشام التاريخية، والأقوام والعرقيات التي استوطنت المنطقة تاريخيا، لم يكن له أثر كبير في تشكيل المخيال الجمعي، إذا ما قورن بالدور الذي لعبه الإسلام والقطيعة المعرفية التي أنتجها مع الفكر الذي سبقه. يقال: إن الإسلام يجب ما قبله على المستوى الشخصي، أو على مستوى الأفعال البشرية، ولكن الأمر ينطبق أيضا على المستوى الجمعي في سوريا، فعبارة "الإسلام يجب ما قبله" عبارة نموذجية لوصف ما بقي من إرث معرفي وفكري مترسب من حضارات ما قبل الإسلام. لقد دام الحكم الروماني ثم البيزنطي قريبا من سبعة قرون، ولا شك في أنه كان لهذه الحضارة كما لغيرها من الحضارات والدول التي سبقتها تأثير كبير في نفوس الناس وطرق وعيهم بالعالم، ولكن الواقع يثبت أن هذا التراكم التاريخي كله لم يبق منه شيء في المخيال الذهني للشخصية السورية المعاصرة، وبخاصة في مجال رؤيتها السياسية. هذا كله على خلاف الشخصية المصرية التي مازال التاريخ الفرعوني – حتى على المستوى الرمزي- يشغل حيزا لا بأس به من وعيها بالعالم ومن عوامل رؤيتها لذاتها.

إن نقطة البداية هي الإسلام، أما الأقوام الأخرى كالكنعانيين والفينيقيين والرومان وغيرهم فقد دخلوا متحف التاريخ، واستعادة الكنعانيين أحيانا تجري ضمن سياق سياسي، غرضه توكيد الحق التاريخي في أرض فلسطين، على اعتبار أن العرب هم امتداد للكنعانيين، بمعنى أن هذه الاستعادة لا تأتي أبدا في إطار مساهمة الآراميين والكنعانيين والأنباط في تشكيل وعينا أو التأثير فيه.

تمتد الفترة الإسلامية أكثر من 1400 عام، ولكن الشخصية السورية لا تستعيد من هذه المساحة الزمنية إلا قرنا أو قرنين على الأكثر. ثمة احترام للعصر الراشدي، أشخاصا وأحداثا، ولكن المخيال السياسي السوري لا يبدي اهتماما بالعصر الراشدي، ولا عصور الدول المتتابعة والمماليك والعثمانيين، فليس بمقدور كل هذه العصور أن تلطخ نقاء العصر الذهبي: العصر الأموي الذي كان فيه الخليفة يحاصر القسطنطينية، ويحكم إمبراطورية تمتد من الصين إلى أقاصي إسبانيا. وربما شمل العصر الذهبي الفترة العباسية الأولى. أما ما سوى ذلك فلا يأخذ إلا حيزا ضئيلا من الذاكرة الجمعية.

إن نقطة البداية هي الإسلام، أما الأقوام الأخرى كالكنعانيين والفينيقيين والرومان وغيرهم فقد دخلوا متحف التاريخ، واستعادة الكنعانيين أحيانا تجري ضمن سياق سياسي، غرضه توكيد الحق التاريخي في أرض فلسطين

كانت الدولة الأموية دولة عربية خالصة، والتركيز عليها دون سواها يعني أن البنية العميقة للمخيال السياسي السوري هي بنية عروبية، أسهمت عوامل جغرافية أخرى في تشكيلها، فالسوريون مثلهم مثل إخوانهم العراقيين يقعون على خطوط التماس مع قوميات أخرى. وعلى خلاف الدول العربية في إفريقيا التي لم تتعرض لغزوات من الأقوام الإفريقية جنوب الصحراء، فإن بلاد الشام وبلاد الرافدين تعرضتا لغزوات هائلة عبر التاريخ. هذا بعد جغرافي لا ينبغي نسيانه في تفسير غلبة الحس القومي في بلاد الشام وبلاد الرافدين. أما النزوع الإمبراطوري الذي تتشابه فيه الشخصيتان السورية والعراقية فيستعيده العراقي على شكل دولة عباسية، عاصمتها بغداد حاضرة الدنيا آنذاك، مثلما يخيم هذا النزوع على الوعي السياسي السوري على نحو لا يمكنه الفكاك منه.

في الأعماق اللاواعية أو الواعية للشخصية السورية يثوي شعور قاهر أنها صاحبة الحق في تمثيل بلاد الشام، فسوريا هي ما بقي من بلاد الشام، أو هي الجسد الذي اقتطعت منه بعض أعضائه: لبنان الكبير، والأردن، وفلسطين، وغيرها. لذلك يتخذ تعامل الشخصية السورية مع تلك الكيانات تعاملا فوقيا؛ فلبنان هو ابن ضال آثر النظر إلى البحر المتوسط وأوربا، بدلا من دمشق، والخلاف بينه وبين سوريا يمكن تمثيله رمزيا بالخلاف بين شارع الحمراء في بيروت، وسوق الحميدية في دمشق؛ والأردن تحول إلى مملكة لا تستقيم مع الفكر الاشتراكي الذي تعلمته. أما فلسطين فهي جزء احتله عدو استيطاني، ولذلك فإنها قضية السوري قبل أن تكون قضية غيره من العرب، وتحريرها هو مسؤوليته التاريخية. ولا بأس أن تظل الأجزاء السليبة الأخرى على الخريطة أملا باستعادتها يوما ما.

استنادا إلى هذا السياق التاريخي، لم يكن ظهور حزب البعث غريبا على الساحة السياسية السورية، وهو سياق يفسر أيضا أن هذا الحزب لم يجد موطئ قدم في بلدان أخرى. كان نشوء حزب البعث نتاجا للشخصية السورية بنزوعها القومي الإمبراطوري، ومن هنا جاء شعاره عن الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة التي أسهم الخطاب الإعلامي والنظام التعليمي في غرسها في نفوس أجيال من السوريين. أما الصورة المثالية للأمويين الذين "ألحقوا الدنيا ببستان هشام" فقد كرسها الأدب والتاريخ في الوعي الجمعي. سوريا التي يحملها السوري بين أضلعه هي سوريا المتخيلة، هي الصورة التي أسهمت "البلاغة" في صياغتها، ولعل الحالة السورية من الحالات الفريدة التي يتفوق فيها الوطن -البلاغة على الوطن -الواقع.

غرس هذا المتخيل اللفظي في قرارة نفوس السوريين فكرة مفادها أن سوريا من الناحية الجغرافية أضيق من أن تكون وطنا لهم، فالسوري لا يقبل أبدا بالحدود المعروفة لسورياه، لأنها تهشم وجهه في مرآة التاريخ، وفي وعي الذات لنفسها. لكن السوري – وياللمفارقة- يصحو من هذا المجد التاريخي ليجد نفسه أمام جغرافية بائسة، فالأمة المتخيلة "محتلة"، ولا سبيل لاستعادتها، ولذلك استبدل بالخريطة الأموية خريطة "الأمة العربية"، وهي في حقيقتها خريطة "الدول العربية" التي ثبتت على أغلفة الكتب المدرسية، وعلى جدران الصفوف والقاعات الدراسية، والتي لا تغيب عن العين لا في الدوائر الحكومية ولا في النشرات الإخبارية...إلخ.

غير أن هذه الجغرافية المتآكلة نفسها تفتتت في السنوات الأخيرة، فارتفعت الحدود بين الأقسام الثلاثة أو الأربعة في سوريا، وبات الانتقال من حلب إلى إدلب، أو من منبج إلى جرابلس، أصعب من الانتقال من دولة إلى أخرى، فنشأت تبعا لذلك مافيات تهريب بين المناطق السورية، مهمتها في المقام الأول تسهيل خروج السوريين من "سوريا الأسد" إلى الأقسام الأخرى، هربا من جحيم الحياة هناك. أما زيارة المناطق التي تسيطر عليها "قسد" فقد أصبح يتطلب كفيلا وموافقة أمنية.

يقولون: إن على الإنسان ألا ينظر إلى النجوم لأنه سيقع في أول حفرة في الطريق. يبدو أن الأمر لا ينطبق على الأشخاص وحدهم، فالشعوب التي تحلم بنجوم التاريخ عليها أن تتوقع السقوط في أول حفرة لجغرافية الحاضر.

 

 

 

كلمات مفتاحية