
قُدّر للشاب مثنى بركات أنّ يعيش الشتات واللا استقرار، كمئات آلاف السوريين، فقد تنقّل بين الأرياف والمخيّمات بحثاً عن أمانٍ مؤقت، قبل الاستقرار في بلدته كفرنوران بريف حلب الغربي، التي تشهد قصفاً مستمراً بمسيّرات وقذائف قوات النظام السوري، باعتبار البلدة على خطوط التماس.
وخلال شتاء العام 2020، إبّان حملة قوات النظام على شمال غربي حلب وجنوبي إدلب، كان أوّل نزوح للشاب مع عائلته المكوّنة من 12 فرداً (بينهم أطفال)، تنقّل خلاله بين ثلاثة مخيمات في الشمال السوري.
يقول بركات لـ موقع تلفزيون سوريا: "اشتريت خيمة صغيرة ومكثنا فيها على أطراف مخيم بعيد، قبل طردنا منه بحجة أننا نصبنا الخمية في أرضٍ خاصة خارج حدود المخيم، فنزحنا مجدّداً لنجد أنفسنا في مخيم بمنطقة كفر لوسين شمال غربي إدلب، ثم في مخيم آخر قريب من منطقة عفرين شمال غربي حلب".
ورغم اشتداد حملة القصف المستمر على بلدة كفرنوران، يرفض "بركات" الخروج من بيته، قائلاً: "أعالج الخوف المتنقل بالخوف المستقر وكُلّي أمل أن يتوقّف القصف وأنا في بيتي الأكثر أمناً من تلك المخيمات".
شكّلت حركة تنقّل السوريين المستمرة ورحلات النزوح واللجوء، تحديات كبيرة أمامهم، فمن الأوضاع العسكرية غير المستقرة في الداخل السوري وحملات القصف مروراً بعمليات الترحيل القسري من تركيا وقبلها كارثة زلزال شباط 2023، وصولاً إلى حرب لبنان، التي لوحظ فيها ضعف الاستجابة لاحتياجات تلك العائلات، خاصة في تأمين مأوى مؤقت يُخفّف خسائرهم المادية والمعنوية.
"نزوح مستمر وسكن مؤقت"
وقد كشف تقرير لفريق "منسقو استجابة سوريا" عن استمرار حركة النزوح من مناطق ريف حلب وإدلب القريبة من خطوط التماس إلى مناطق آمنة نسبياً في الشمال السوري، وذلك نتيجة للتصعيد العسكري المستمر، إذ بلغ عدد النازحين خلال شهر تشرين الأول الفائت، 8124 نازحاً، في حين سجّل عدد الوافدين من تركيا إلى الداخل السوري 9176 لاجئاً، والوافدين من لبنان 7892.
صالح الزين -مهجّر سوري من غوطة دمشق الشرقية، كان يعيش في أنطاكيا جنوبي تركيا منذ العام 2018- وقد بدأ نزوحه من بلدته "دير سلمان" إلى "النشابية" ومنها إلى "الشيفونية" ثم مدينة دوما وصولاً إلى حمورية، التي انطلق منها عبر قوافل التهجير إلى إدلب شمال غربي سوريا، بعد حملة النظام على الغوطة، شتاء 2018.
يقول "الزين" لـ موقع تلفزيون سوريا: "تنقلت بين 7 منازل، وفي إدلب سكنت في مخيمٍ قبل أن أستقر في سراقب، وأخيراً في تركيا حيث أقمت في أنطاكيا ثم إسطنبول، بعد أن دُمّر بيتي من جراء زلزال شباط".
وبطبيعة الحال فإنّ دورة النزوح تؤدي إلى خسارة كبيرة في رأس المال الاقتصادي والاجتماعي والأمني، إذ يستعد "الزين" للهجرة نحو أوروبا عبر الحدود، مطلع الصيف المقبل، بعد أن ضاقت به سبل العيش في تركيا، ما يعني أنه أمام حياة جديدة سيبدأ فيها تكوينه الاجتماعي والمادي.
وأوضح "الزين" قائلاً: "كل أموالي ذهبت في التنقّل، فكل منزل أدخل إليه أستنزف الكثير من مدخراتي المالية للصيانة والمستلزمات، ثم أتركه بعد فترة قصيرة، لكن الصدمة الأكبر كانت عندما خسرت كل شيء في بيتي بأنطاكيا، إذ حوّل الزلزال البناء كله إلى ركام"، مردفاً: "سأهاجر إلى أوروبا بعد انتهاء هذا الشتاء.. آمل أن يكون الاستقرار الأخير لي هناك".
بالعودة إلى شباط 2022، فقد نشر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تقريراً أفاد من خلاله بأنّ المعدلات المرتفعة للنزوح تشير إلى استمرار غياب خيارات عودة قابلة للتطبيق، وقد تشير إلى تشتيت دائم للسكّان، في حين يضاعف تواتر النزوح من مصاعب العائلة السورية، فإجمالاً هُجّر 9% من العائلات (6) مرات، و26% (4-5) مرات، و34% (2-3) مرات، و31% نزحوا مرة واحدة فقط.
آثار النزوح
يؤدي التنقل والنزوح المستمر للنازحين إلى التسبب بمخاوف في مجالي الأمن والسلامة أو يزيد من حدتها، إضافة إلى فقدان النازح للبيئة الاجتماعية الحاضنة التي تأقلم وتعايش معها، والاضطرار إلى الانتقال نحو بيئة اجتماعية جديدة ومختلفة، لا قواسم مشتركة فيها سوى ظروف النزوح والبحث عن مكان آمن.
ومع ازدياد حجم العبء على النازح المنشغل بتأمين احتياجاته يتعزّز مفعول الاغتراب عن محيطه ويتجنب إلى حدّ كبير الاختلاط بالمحيط الجديد لعدم المعرفة بمكوناته، سواء لعجزه عن التفاعل والتضامن والعون في محيطه الاجتماعي، أو لإخفاء حالة الضعف والعوز التي بات عليها من جراء فقدانه لممتلكاته ومصدر رزقه.
عن التحديات التي يمكن أن تواجهها العائلات النازحة وأطفالها والمشكلات الاجتماعية المترتبة على انتقالهم المستمر الى بيئة اجتماعية غير طبيعية، يوضح الاختصاصي النفسي جلال نوفل، أن "تأثيرات النزوح المستمر ينتج عنه حالة عدم استقرار، ولذلك تأثيرات عديدة من الناحية الاجتماعية كالتفكك الأسري وتشتت المجتمعات، وبالتالي صعوبة التكيّف مع الأوضاع الجديدة، التي تخلق حالة من التوتر والقلق النفسي، عدا عن فقدان الهوية والانتماء بسبب الابتعاد عن المجتمع الأصلي وصعوبة الاندماج في المجتمعات الجديدة".
أما بالنسبة للأطفال النازحين -وفق نوفل- فلهم احتياجات أساسية كالأمن الجسدي/ الفيزيائي بما يعنيه من توفّر المسكن والطعام وسلامة الجسم والعيش في نظام حياة روتيني، إضافة إلى الأمان النفسي بما يتضمنه من الشعور بالاستقرار العاطفي الذي يؤمنه الاهتمام بهم والدعم والمساندة من أسرتهم ومحيطهم الاجتماعي، وأن ييسر لهم مواجهة المواقف الحياتية التي يمرون بها عبر التعلم سواء بالاقتداء بالمحيط أو بالتوجيه والتعليم والتدريب.
يضيف نوفل في حديثه لـموقع تلفزيون سوريا، أنه وبنظرة سريعة لهذه الاحتياجات الأساسية للأطفال يمكن إدراك كم التأثير الكبير وتضرّر احتياجاتهم، وبالتالي تطورهم النفسي/ الاجتماعي مع فقدان حالة الاستقرار المكاني نزوحاً أو هروباً من الخطر "فلا روتين في حياتهم ولا علاقات مستقرة ولا بيئة آمنة مألوفة ولا دعم اجتماعي مستقر ولا بيئة تعلم أو عملية تعليمية مستقرة مع شعورهم المستمر بعدم الأمان النفسي".
ويرجع نوفل سبب عدم حصول الأطفال على الأمان النفسي، إلى الأسرة والمحيط الاجتماعي الأقرب كونهما عاجزين عن توفير الأمان "لأنهم إما خائفون أو يعانون من فقد المكان الآمن وخسارة شبكة دعمهم النفسي والاجتماعي أو فقد أحبائهم، ما يجعلنا نقف اليوم أمام جيل ضائع أو تائه".
وتتفق الباحثة كندة حواصلي -مديرة الوحدة المجتمعية في مركز "الحوار السوري"- مع نوفل، في أن ظروف السكن المؤقت والتنقل المستمر -خاصة تلك التي تأتي غير مدروسة وعشوائية نتيجة لسياقات الحرب أو الكوارث أو نتيجة للضغوط الأخرى- تكرّس حالة من عدم الاستقرار وعدم الارتباط بالمكان وتشتيت الذكريات المصنوعة مع المكان ولا سيما بالنسبة للأطفال، فمع كل نزوح هناك فقدٌ للأصدقاء والصلات والعلاقات المكونة في المحيط الأصلي.
وأضافت "حواصلي" لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ "هؤلاء الأطفال يصبحون غير قادرين على الانتماء أو تشكيل هوية معينة، إضافة إلى تعزز حالة الفقر والهشاشة وتشتت أفراد الأسرة والتأثير سلباً على مستقبلهم التعليمي والمهني، وكذلك تدهور الأوضاع الصحية في مناطق النزوح".
حلول مطروحة
تعكس رغبات السوريين بالاستقرار الدائم، آمالهم بالخلاص من حالة الفوضى والتردد الذي يتغول في حياتهم منذ اندلاع ثورتهم، فالاستقرار يعني كسب فرص العيش والفرص الاقتصادية والاندماج المجتمعي الثابت مع المجتمع المضيف، والتي تؤدي بالمجمل إلى تشكيل حلول تكامل دائمة ضمن بيئة الشتات الجديد الذي يعيشونه.
ويعد عدم توفر المساكن، أحد أهم أسباب عدم تفكير كثير من السوريين بالعودة إلى المناطق التي هُجّروا منهم، فقد نَجم عن سنوات الحرب مسح أحياء وبلدات كاملة عن الوجود، وتغيّرات هائلة في الخرائط العقارية، إذ تشير التقارير إلى تدمير نحو 328 ألف مسكن، لم يعد من الممكن إعادة السكن فيها، إضافة إلى تضرّر ما بين 600 ألف ومليون مسكن، بشكل متوسط أو طفيف عدا عن دمار كبير في البنية التحتية.
- اقرأ أيضاً.. حملة لحماية 100 ألف وثيقة عقارية في شمال سوريا
ومن المهم في هذا الإطار الإشارة إلى أن الأوضاع الأمنية سواء في الداخل أو بلاد اللجوء، لا سيما في تركيا ولبنان، هي السبب الرئيس أيضاً لعدم الاستقرار النفسي والعائلي، إذ بات تشرذم العائلة الواحدة بين أماكن عدة حدثاً مألوفاً في حياة السوري، في حين تبدو الصورة "أكثر قتامة" عند النظر إلى ضيق الخيارات والتداعيات الخطيرة الحاصلة والتي تطول الجميع.
تدعو الباحثة "حواصلي"، العائلات السورية إلى تقبّل فكرة حالة عدم الاستقرار والتفاعل معها إلى حدٍّ ما والتمتع بشيء من المرونة النفسية والتكيّف، لمواجهة تحديات الاستقرار المؤقت حتى يحافظوا على سويّتهم النفسية قدر الإمكان "فحالة الرفض والإنكار تمنع من الاندماج مع البيئات الجديدة"، وفق تعبيرها.
ويبدو أن المسؤولية الأبرز في معالجة آثار النزوح والتنقل تقع على عاتق الجهات الإنسانية من حيث فهم احتياجات النزوح، لا سيما احتياجات الحماية وتأمين المتطلبات الأساسية للمجموعات الضعيفة والمهمشة المعّرضة للخطر.
وتشير "حواصلي" إلى أنّ الجهات الإنسانية والمجتمعية مطالبة بالتوصل إلى حلول مستدامة عبر التشاور مع النازحين والمجتمعات المضيفة عند تصميم مشاريع الاندماج، والإدماج في سوق العمل المحلية، إلى جانب دعم قدرة السكان النازحين والسكان المضيفين على الصمود من خلال ضمان الوصول إلى الخدمات الأساسية ومراقبة الاحتياجات مع الوقت ومعالجتها، ودعم العودة إلى المدرسة بالنسبة للأطفال، والأهم من ذلك كله حماية حقوق النازحين في العودة إلى مناطقهم الأساسية والحفاظ على ممتلكاتهم من النهب والاستيلاء.