الشاي والسياسة

2020.12.10 | 23:57 دمشق

adat_trkyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس ضرورياً أن يرتبط الشاي بالسياسة أو بأحزابها  كي يعبر عن وعيه الديمقراطي أو الاستبدادي، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية التي نشأت فيها أول حركة سياسية اتخذت اسم "حزب الشاي"، إثر حركة احتجاجية على فرض البرلمان البريطاني ضرائب تخص تصدير الشاي إلى المستعمرة البريطانية آنذاك (الولايات المتحدة الأميركية عام 1773م).

فما علاقة الشاي بالسياسة سواء أكانت ديمقراطية أم استبدادية؟ وهل يعكس شرب الشاي أو طريقة تحضيره نمطَ تفكيرٍ سياسيّ معين؟

يخبرنا علم النفس أن الطبيعة الإنسانية تنطوي على "وعي وسلوك"؛ فمعرفة أسلوب التفكير تُكسبنا القدرة على التنبؤ بالسلوك، كما أنّ مراقبة السلوك وتحليله تمنحنا القدرة على كشف طريقة تفكير الإنسان عامة. والأمر ذاته في ميدان علم النفس الاجتماعي؛ فالمتأمل في عادات الشعوب وتقاليدها يدرك أن الأمور المعيشية العامة لأي شعب في طعامه وشرابه، بل حتى في شكل ملبسه أو طريقته، تعكس طبيعة تفكيره السياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها. ففي "جمهورية تتارستان" مثلاً اعتاد الناس أن تستغرق فترة تناولهم الطعام مدة أربع ساعات أو أكثر، ومرّد هذه العادة إلى الخوف من السلطة الاستبدادية التي حكمتهم يوماً ما، فكانت تنعقد اجتماعاتهم السياسية الدائمة أمام المائدة، فإذا فاجأتهم مداهمةٌ أمنية غيّروا نقاشاتهم السياسية إلى الحديث عن أنواع أطعمتهم ومذاقها!

فما علاقة الشاي بالسياسة سواء أكانت ديمقراطية أم استبدادية؟ وهل يعكس شرب الشاي أو طريقة تحضيره نمطَ تفكيرٍ سياسيّ معين؟

أما اللغة التركية فإنها تحفل بكثير من الكلمات التي تعبّر عن حضور الشاي ومنزلته في الحياة التركية وثقافتها، فمثلاً يطلق على المكان العام الذي يشرب فيه الشاي (شاي هانا) (çayhane)، أو (حديقة الشاي) (çay bahçesi)، أو (بيت الشاي) (çay evi). هذا على الرغم من تفرد القهوة التركية (Turkish Coffee) بطريقة تحضيرها عن غيرها من أشكال القهوة في العالم، إلا أن بلاد القهوة التركية تشرب الشاي، وتسميه "بنزين الأتراك"، لكثرة شربه الذي يتجاوز شربَهم الماء أحياناً، بل ربما كان تعويضاً عنه في أحايين كثيرة، به يستقبلون صباحهم، وهو رفيقهم العزيز في أوقات عملهم الطويلة، ومعه يمضون جلساتهم المسائية حتى النوم.  

أما طريقة تحضير الشاي التركي قد تكشف عن بعد ديمقراطي في وعيهم العام، إذ يضع الأتراك إبريقين من النحاس، الأول خاص بالماء المغلي، والثاني خاص بورق الشاي الذي يُخمّر على مهل، ويستطيع الشارب أن يختار بين شاي ثقيلة أو خفيفة، ومن حقّه أن يختار كمية السكر قليلةً أو كثيرة، بل إن حرية اختيار طريقة الشعور بالحلاوة تتجاوز الحدود الاجتماعية أحياناً، فربما وضع أحدهم مكعب السكر تحت لسانه، فيحلو الشاي في طريقه إلى الحلق، كما تقدم كؤوس الشاي مرفقة بأطباق زجاجية تعبر عن قيمة هذا المشروب واحترامه، إضافة إلى الملعقة داخل الكأس الزجاجي التي تخلق بتحريكها للسكر في داخله موسيقا تطرب الشارب وتمتعه، في شتى أحاديثه الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية. 

فإذا جئنا إلى اللغة العربية التي لا نستغرب أن يوجد فيها أكثر من خمس آلاف كلمة عن "الناقة"، ولا يكون فيها إلا كلمة واحدة عن الثلج، الذي يوجد له ألف مرادف في لغة الإسكيمو، فسنلاحظ خلوّها من اسم المكان الذي يُشرب فيه الشاي، فلم نسمع حتى الآن باسم مكان (مشهى) المشتق من الشاي على غرار اسم (مقهى) المشتق من (القهوة)، التي ملأت سيرتُها ومجالسها النصوص الأدبية والشعرية والأهازيج الشعبية، إضافة إلى ارتباط تناول القهوة بطقس اجتماعي نخبوي لدى العرب، وتضرب جذورها في تاريخهم العريق، وهذا ما جعلها تحظى بمنزلة مميزة في الثقافة العربية لم ينلها الشاي كما نالها في الثقافات الأخرى كالصينية والهندية وغيرها.   

وهكذا تكشف طريقة التعامل مع الشاي طبيعة الوعي الفكري العام الذي يحمله هذا المجتمع أو ذاك؛ فالشاي في سوريا قد يعبّر عن ذات مقموعة مأمورة، فبالرغم من أنه مشروب ريفي، يشربه أهل الريف أكثر من أهل المدينة، إلا أن طريقة تحضيره والتعامل معه - رغم اختلاف البنية الاجتماعية والفكرية بينهما – واحدة؛ إذ يوضع ورق الشاي والسكر والماء دفعة واحدة في إبريق واحد حتى مرحلة الغليان التي تخلط تلك المكونات المختلفة في مشروب واحد متجانس، بلون واحد وطعم واحد، كأنما يعبر عن إرادة سياسية قاهرة تمقت التعدد والتنوع والاختلاف، وبعدها يُصبّ في كؤوس بلا أطباق غالباً، فالأطباق لم تُخلق للشعوب المقهورة، ويُجبر على شربها الشارب كما هي ثقيلة أو خفيفة، حلوة أو مُرّة كحياة السوريين، دون أن يمتلك حق الاختيار، وربما يدل الإفراط في تحلية الشاي السوري على أن السكر أصبح المصدر الرئيس لتلبية حاجة أجسامهم من السكريات بعد أن كان الحصول عليها قبل ذلك يكمن في أغذية أخرى ثمينة مثل العسل والدبس والتمر، إضافة إلى أن زيادة السكر ربما تصرف انتباه الشارب عن التفكير في جودة الشاي ونوعه، ومن هنا كانت الأغنية الشعبية الأشهر حول الشاي تقول: "يا صبّابين الشاي زيدوا حلاتو".

ليس هذا المقال دفاعاً عن الشاي أو تعبيراً عن شغفنا به، فكاتبه ليس مغرماً بالشاي أصلاً، وهو من حزب القهوة، بل غايته الكشف عن مظهر آخر للتفكير السياسي الاستبدادي الراسخ في طريقة حياتنا السورية العامة.